الاثنين، 3 فبراير 2014

قطــــاع الشمـــال بــين فكــي كماشــة

إذا انطلقت جولة جديدة من المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال حول أوضاع المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق في الثالث عشر من الشهر الجاري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا كما أعلن مساعد رئيس الجمهورية بروفيسور إبراهيم غندور أول من أمس، فإن ذلك يتم في سياق مختلف وظروف جديدة تفرض واقعاً ومناخاً يمكنه دفع المفاوضات إلى اتجاه أكثر فاعلية عما سبق.
فالحرب الدائرة في دولة جنوب السودان قلبت المعادلات بالنسبة للحركة الشعبية قطاع الشمال، فقد تبدلت التحالفات الداخلية بالنسبة لها، وأصبح الحلفاء السابقون لها وهم مجموعة مشار وباقان ودينق ألور وتعبان دينق خارج السلطة بعد تمردهم على حكومة الرئيس سلفا كير، واضطر قطاع الشمال بكل قواته ومجموعاته وقياداته السياسية إلى مصانعة حكومة جوبا ثم الجهر بموقفه لصالحها والانخراط في صف الجيش الشعبي وحكومة سلفا كير ضد مجموعة المتمردين، ووجد قطاع الشمال بالرغم من أن قلوب قادته مع أصدقائهم المتمردين، أنه في موقف شديد الحرج اضطرهم للتخلي عن أصدقاء الأمس انحيازاً لمصالحهم ووجودهم، فالدولة التي آوتهم ومدتهم بالسلاح والملاذ تقاتل رفقاءهم، والعاصمة الأخرى كمبالا التي جعلوا منها قاعدة للانطلاق والتدريب والإيواء، دخلت هي الأخرى في حرب مفتوحة ضد متمردي دولة الجنوب، فلا يمكن لقطاع الشمال غير أن ينحني لأسياده ويسير وسط الصفوف الداعمة لجوبا لا غيرها.
لذلك لا بد أن يكون التفاوض ذي جدوى ومتقدماً في سبيل التوصل لحل عاجل وسريع وحاسم، في ظل هذه الظروف الناشئة في دولة الجنوب وظلالها على المنطقتين في السودان، فلم يعد قطاع الشمال نظراً لموقف الخرطوم من الانقلاب والتمرد على سلطة الرئيس سلفا كير في جوبا، في موقف يتيح له بوصفه فصيلاً يسمى قطاع الشمال في الحركة الشعبية أن يناور أكثر كما كان يفعل في السابق، ويبدو خاضعاً بالفعل لضغط  الظروف الراهنة التي لا محالة تجبره على تقديم تنازلات أكثر وتقربه من الحل المطلوب وإلا خسر كل شيء.
ولا يعني ذلك أن جوبا ستتدخل لصالح الخرطوم في ممارسة ضغطها على قادة قطاع الشمال، وهي لن تفعل ذلك، لكن الظروف ومعطيات الواقع تجعل قطاع الشمال والحركات المتحالفة معه في وضع يستحيل معه مواصلة الحرب والتعنت والتلكؤ، فلأول مرة يتفاوض قطاع الشمال وظهره على الأرض مكشوف نوعاً ما، فلا توجد جهة تستطيع دعمه وتوفير المال والسلاح والعتاد العربي والتشوين والوقود وآليات ومركبات الجنوب كما كان في السابق، ومعلوم أن حكومة دولة الجنوب عبر تعبان دينق عندما كان في ولاية الوحدة وقيادة الجيش الشعبي قبل الحرب الاخيرة والتمرد على سلفا كير وتحت تأثير القيادات النافذة التي تمردت فيما بعد، كانت هي الداعم الأكبر والظهر الواقي لقطاع الشمال والفرقتين التاسعة والعاشرة من الجيش الشعبي اللتين تقاتلان في جبال النوبة والنيل الأزرق.
ويمكن لمفاوضي الحكومة في حال بدأت المفاوضات في موعدها الذي حددته اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى بقيادة الرئيس الجنوب إفريقي الأسبق ثابو مبيكي، يمكنهم دخول هذه الجولة بثقة أكبر ورغبة أعمق في السلام بعدم وجود أية مؤثرات خارجية على قطاع الشمال كانت تعيق التفاوض.
كما أن قطاع الشمال نفسه في تقدير كثير من المراقبين بعد خطاب الرئيس البشير الأخير ووثيقة المؤتمر الوطني ووجود خلافات عميقة في الجبهة الثورية وخروج بعض حركات دارفور من تحالفها، وانحسار الدعم العسكري والمالي، ليس أمام هذا القطاع من خيار غير التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب في جبال النوبة والنيل الأزرق ويعيد الاستقرار والسلام والتنمية.. فأمامه فرصة إن ضاعت لن تعود مرة أخرى وهي استثمار أجواء الوفاق الوطني والحوار الحالية، وإلا وجد نفسه في مواجهة راهن شديد الوطأة بموافقة جوبا على تطبيق الملف الأمني مع السودان بكل مصفوفاته واتفاقياته، الأمر الذي يضع قطاع الشمال بين فكي كماشة.

الترابي .. إسقاط النظام أقصي الأماني ..!!

تقول شواهد تاريخه وكل مواقفه وتحالفاته السابقة أن زعيم الشعبي مستعد للتعاون مع الشيطان نفسه لإسقاط الحكومة ،فالدكتور  الترابي رغم صمته المطبق إلا أن المصادر الهاصة من داخل الشعبي تفيد بأن زعيمه أجرى عدة اتصالات مع قوى ورموز معارضة بالداخل والخارج خلال الأيام الماضية بهدف التنسيق المحكم للتصعيد العسكري بدارفور عبر قيادات بعينها من حركة العدل والمساواة بالإضافة إلى تنسيقه المستمر مع الحزب الشيوعي والذي بدا واضحاً في الآونة الأخيرة.

وبحسب الوضع التنظيمي والسياسي الراهن للشعبي فإن الحزب يعيش هذه الأيام تمزقاً سياسياً بعدما ظل زعيمه و قياداته يتوارون خلف أجندات تخريبية تستخدم فيها الأحزاب المعارضة باسم العمل الإسلامي ،المراقب لأمر الشعبي- يجد أن الحزب قد وضع ومنذ انشقاقه منذ نحو ثلاثة عشرعاما يجد أن برنامج الشعبي لا يحتوى علي برنامج سياسي غير غاية واحدة وهي (إسقاط حكومة المؤتمر الوطني) وهي الغاية التي أعيت أنصار الحزب ومناصروه كثيرا، فإختزال برامج ومنفستو الحزب في اسقاط الحكومة وبشتى الوسائل والتحالفات وإن جاءت مع الشيطان اقعدت الشعبي ومناصروه على رصيف محطة الانشقاق الأولى.. لنرى بعضاَ من تلك ملامح التحالفات التي أبرهمها الشعبي في سبيل ذلك ..

أولى تلك المحطات كانت مذكرة التفاهم التي وقعها الشعبي مع الحركة الشعبية بزعامة قرنق في فبراير 2001م وهي التي كانت بمثابة التشين لمراحل تحالفات عدة بين الشعبي و(شياطينه) لأسقاط الانقاذ وبعدها أمتدت لتشمل تاسيس زراع عسكري له بإسم (حركة العدل والمساواة . فحركة العدل والمساواة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بفكر المؤتمر الشعبي الذي استقطب أعداداً كبيرة من طلاب دارفور ورعتهم وجندتهم في صفوفها ورفع من مستوى إحساسهم (بالتهميش) في أطار سعيه للضغط على غريمه الوطني الحزب الحاكم - كما صرح بذلك عدد كبير من القيادات التي انسلخت مؤخراً من الشعبي وثالث تلك التحالفات الشعبية الشيطانية كانت مع الحزب الشيوعي وهو تحالف برز إلى السطح العلنيمنذ نحو سبعة أعوام ، لكنه برز إلى العلن بصورة واضحة في الأشهر الأخيرة .

وقد اتى ذلك في اعقاب التوجيه السابق لدكتور الترابي والذي جاء في اجتماع سابق للشعبي ووجه فيه الترابي بزيادة التنسيق مع الحزب الشيوعي لتطوير العلاقة معه والإستفادة من علاقته مع المنظمات الدولية والقوى الغربية في إضعاف النظام تمهيداً لإسقاطه فيما أعتبر كمال عمر العلاقة مع الشيوعي بأنها أكبر فتح للمؤتمر الشعبي وذلك رغم تحفظ بعض الأعضاء على ذلك مما أدى لإجازة المقترح بالتصويت.

أما رابع تلك التحالفات الشيطانية هو تحالفه مع قوى ما يسمى بالتحالف المعارض الذي تجاوز كل الأعراف الوطنية وذلك عبر تبنيه لأجندة غربية يتصدرها بند إسقاط الحكومة بشتى الوسائل.

إذاً .. إذا ربطنا كل هذه الاحداث بعضها البعض نتساءل على ماذا ينطوي المؤتمر الشعبي وماذا يستبطن ؟ وعلى ماذا ينطوي الحزب الشيوعي ويستبطن؟ وعلى ماذا تنطوي العدل والمساواة وتستبطن؟ وعلى ماذا ينطوي تحالف كاودا ويستبطن؟وإذا كان ما برز تقارير صحافية حول الشعبي وتحالفاته الشيطانية هو مجرد جزء طاف من جبل الجليد فماذا يحمل جبل الجليد هذا في جوفه تحت الماء.

محترفي الحروب الإقليمية!

أظهرت الصراعات العديدة التى شهدتها المنطقة فى الخمس سنوات القليلة الماضية أن الحركات الدارفورية المسلحة أضحت عنصراً ضاراً فى المنطقة ليس فقط لأنشطتها المسلحة ولا عمليات النهب والسلب التى جرت على ممارستها بما يزيد من معاناة الناس لا سيما البسطاء منهم، ولكن لدخولها فى خضم الصراعات المسلحة التى تنشب بين حين وآخر فى دول الجوار.
ففي الوقت الذي أصبح فيه مجلس السلم الإفريقي يواجه امتحاناً صعباً حيال صراعات دول القارة التى لا تنتهي وتأكل فى طريقها الأخضر واليابس وكلفت القارة والمجتمع الدولي مئات الملايين من الدولارات فى شكل مساعدات إنسانية لمواجهة حركات اللجوء والنزوح التى تزيد من أوضاع القارة بؤساً على بؤسها، فإن الحركات الدارفورية المسلحة أصبحت عبئاً أكبر بعرقلتها إطفاء الحريق فى أرجاء القارة.
ففي الصراع الجنوبي الجنوبي على سبيل المثال فإن حركة العدل والمساواة ومع أنها مجرد ضيف يلوذ بدولة الجنوب غض النظر عن مشروعية هذه الاستضافة من عدمها فإن ما إرتكبته حركة العدل وحدها من أعمال عنف مصحوبة بأعمال نهب وسرقات يثير المخاوف من أن تتحول هذه الحركة على المدى البعيد لحركة مرتزقة تعيش على فتات الأشلاء والدماء التى تسيل، خاصة وأن الحركة التى تتعطش للمال ظلت وما تزال ترفض التفاوض الانضمام الى العملية السلمية؛ إذ لن يختلف إثنان على أن رفض التفاوض فى جانب كبير منه شعور الحركة أنها ابتدعت لنفسها أسلوب حياة مناسب لها، فهي تستفيد من النزاعات المسلحة وتمول نفسها منها وباستطاعتها تقديم المساعدة المسلحة لمن يرغب ما دام الثمن جاهزاً.
وقد رأينا كيف عاثت الحركة فساداً فى مدينة بانتيو بولاية الوحدة القريبة من الحدود السودانية الجنوبية حيث وجدت وقتاً كافياً للسطو على بنوك فى المدينة والاستيلاء على أموال فاق عددها الملياري جنيه جنوبي هي دون شك أموال المودعين الجنوبيين وليست أموال المتمردين ولا هي أموال الحكومة الجنوبية. كما أنها استولت على عربات بمختلف الأحجام وعملت على تجيير هذه المسروقات لصالحها عبر حملها إلى معسكرها الخاص فى فاريانق.
ربما لم يكن هذا السلوك الإجرامي مهماً طالما أن الحركة اشتهرت بذلك حين فعلت ذات الشيء قبل سنوات فى ليبيا قبل سقوط القذافي وأثناء الثورة الشعبية العارمة التى كانت قد اندلعت هناك. ولكن الملفت للإنتباه فيما فعلته الحركة فى مدينة بانيتو أنها أصبحت (عدواً إضافياً) للجيش الشعبي الحكومي فى المدينة بحيث تطلب الأمر كما هو معروف إيفاد عبد العزيز الحلو الى بانتيو فى مهمة صعبة لفض الاشتباك بين الحركة والجيش الشعبي الحكومي!
إذن لم يعد الأمر يقتصر على قيام هذه الحركات المسلحة بتأجيج العنف داخل حدود الدولة السودانية ولكنه أصبح أمراً مؤثراً على مجمل المشهد الأمني والسياسي فى المنطقة كلها، خاصة وأن المنطقة سواء في  دولة الجنوب أو فى إفريقيا الوسطى المجاورة ما تزال مشتعلة وما تزال مرشحة على أسوا السيناريوهات.
من الضروري إذن وعلى نحو عاجل أن يولي مجلس السلم الإفريقي ومن بعده مجلس الأمن الدولي اهتماماً خاصاً بهذه الحركات المسلحة لأنها لم تعد مجرد حركات تعمل لأهداف سياسية خاصة، لقد تجاوزت ذلك وأصبحت متعهدة إقليمية بتأجيج الصراعات الداخلية فى بلدان المنطقة والعمل على إشعال النار حالما يتم إطفاؤها.

حين يستعصي الإجماع على قوى الإجماع

من غرائب تحالف المعارضة الذي يحلو لمنسوبيه إطلاق مسمى (قوى الإجماع) عليه، أنه (غير مجمع) على شيء! وبالطبع لا نقول هذا من باب السخرية أو التندر فالمثال الذي توفر لنا مثال قريب لا تتعدى أيامه أسبوعاً واحداً. فحين وجّه المؤتمر الوطني الدعوة للتحالف لحضور وثيقة الإصلاح عبر الخطاب الذي يلقيه الرئيس البشير عشية الاثنين الماضي فإن التحالف -وفقط لمجرد تلبية دعوة سياسية كهذه- سرعان ما انقسم فى على نفسه ما بين رافض رفضاً بائناً للمشاركة، وما بين متأمل فى الدعوة، وما بين مستجيب!
كما هو معروف فإن الذين استجابوا هم أحزاب الأمة القومي والشعبي والعدالة، أما بقية (العقد الفريد) فقد استعصموا بمواقفهم المتصلبة. المفارقة لم تقف عند هذا الحد ولكنها سرعان ما اتخذت وجهة حادة خطيرة حين ترامى الى المسامع فرضية اتخاذ موقف ضد الذين خالفوا قرار هيئة التحالف وتسوّروا حائط حظيرة التحالف وخرجوا لحضور الخطاب!
مكمن الاختلال هنا أولاً، لا يُعرف حتى الآن -مع أن التحالف عمره أكثر من 7 سنوات- الكيفية التى يتم بها اتخاذا القرار داخل التحالف، بل لا يعرف ما إذا كانت هناك آلية ديمقراطية يتم بموجبها مناقشة أمر ما ثم اتخاذ قرار يراعي المعطيات السياسية ويضع فى الاعتبار أن الجميع بصدد عمل سياسي يتطلب الأخذ والرد، والتجربة والمحاولة، أم أن هنالك (رئيس واحد) يتخذ القرارات بهزة من رأسه، أو إيماءة من جبينه.
لقد شهدنا حالات عدة مماثلة فى هذا الصدد، كان الخلاف ينشب بطريقة مفاجئة ومباغتة، وبمنتهى الفوضى والعشوائية، وليس موضوع وثيقة الفجر الجديد الشهيرة ببعيد عن الأذهان.
ثانياً، يثور التساؤل أيضاً عن الأساس الذي بُنيَ عليه التحالف وما إذا كانت هنالك خطوط طول وعرض وحدود دنيا وحدود قصوى وما إذا كان أيضاً الأحزاب الكبيرة توضع لها اعتبارات أم أن الكل (سواسية) ولا نقول (سواسيو) أمام التحالف! ذلك أن مجرد تلبية دعوة لأطروحة سياسية يملك الذي وُجهت له الدعوة كامل الحق في قبول الأطروحة أو رفضها، ليس أمراً يتطلب كل هذا الخلاف فكما حدث بالنسبة للكثيرين ممن شاركوا فإن الخصومة السياسية فى مثل هذه الحالات يتم تنحيتها جانباً، والنظر (بموضوعية) فى متن الطرح والخطاب وأخذ ما هو موافق، وترك ما لا يتوافق.
أمر فى غاية البداهة و البساطة ولكن (قوى الإجماع) لم تستطع الإجماع عليه أو الإجماع على (طريقة مناسبة) لعبور الجسر.
ثالثاً، لندع كل ما أوردناه أعلاه جانباً ولنتساءل ببراءة وبغض النظر عن رأينا فى كل من الترابي والمهدي، أليس هذين الرجلين أكثر دربة وخبرة فى هذا المسار الوعر من بقية المكونات السياسية المكونة للتحالف؟ ذلك لان المساواة بين المكونات السياسية فى تقديرنا إنما يتم فى حالات التصويت على أمر من الأمور ولكن فى القضايا السياسية المطروحة فإن الاعتبار للآراء والمواقف المنطقية، إذ أن حزب عريق وعتيق وقيادته تملك قدراً من الخبرة لا يقاس بحزب آخر لا يعرفه أحد ولم يدخل من قبل فى مضمار السباق الانتخابي ولم تطأ قدمه لا أعتاب الوزارة ولا عرصات البرلمان.

الأحد، 2 فبراير 2014

موقف أمريكي مريب ومحير!

من الغريب أن مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي السيد سوزان رايس والتي ظلت تعتبر دولة جنوب السودان واحداً من أهم انجازات إدارتها لم تستطع رغم كونها معنية بالأمن القومي أن تتحرك أي تحرك ايجابي لوقف الصراع الدموي العنيف فى دولة جنوب السودان.
كان الاعتقاد الراسخ الذي ظل سائداً لوقت طويل وربما الى عهد قريب أن رايس وحالما تود إنفاذ أمر من الأمور فى الجنوب فإنها لا تفعل أكثر من أن ترفع سماعة الهاتف لتملي أوامرها، ثم تضع السماعة حتى قبل أن تتلقى إجابة من الطرف الآخر.
والأكثر غرابة فى هذا الصدد انه وقبل حوالي عامين وحين قرر الرئيس كير إقصاء الأمين العام للحركة الشعبية أموم، وكانت رايس وقتها مندوبة واشنطن فى مجلس الأمن فإن رايس -بكلمتين فقط على الهاتف الساخن- أعادت أموم الى موقعه كأمين عام للحركة، وشاع وقتها -وربما لا يزال يشاع- أن رايس لديها (رجال مخلصون) داخل الحكومة الجنوبية، وربما شعر أموم أنه ذا أهمية خاصة فى نيويورك على الأقل!
ولهذا فإن من الطبيعي الآن وقد دار الصراع لما يجاوز الشهر وحصد ما حصد من الأرواح وكادت ألسنة اللهب أن تلامس فوهات آبار النفط أن يثير الموقف الأمريكي مما يجري التساؤل المريب.
صحيح أن جزء من طرائق واشنطن الإستراتيجية المعروفة فى حل الأزمات تحويلها الى أزمة ساخنة وطهيّ الطرفين على نار هادئة ولاهبة حتى ينضج الحل، فعلت ذلك ولا تزال تفعله فى النزاع العربي الإسرائيلي، وفعلت ولا تزال فى الصراع الداخلي السوري.
صحيح أيضاً أن واشنطن ربما كانت تخطط لمرحلة أخرى مقبلة مختلفة تماماً شخوصاً وأدوات من شخوص وأدوات المرحلة الحالية جرياً على أنشودة الفوضى الخلاقة التى غالباً ما تلجأ إليها الدولة العظمى إذا كانت تريد الحصول على أنقاض تزيلها ثم تنشئ بعد إزالتها المبنى الأثير عندها.
كل هذا صحيح ولكن الأمر الأكثر مدعاة للحيرة هنا، أن الصراع الجاري يبدو من سياقه العام انه صراع أفقي  ورأسي بحيث يمكن أن تلتهم نيرانه النسيج القبلي المعقد فى الدولة الجنوبية وما جاورها من دول للقبائل الجنوبية فيها إمتدادات معروفة؛ كما يمكن أن يقضي على القادة الجنوبيين أنفسهم إما بإحالتهم لاحقاً -أو من تبقى منهم- لمحكمة الجنايات الدولية تحت تهم ارتكاب فظائع، أو أن يصبحوا كنتيجة للصراع ضعفاء خائرين لا يرجى منهم.
وقد يقول قائل إن جزء من المهمة الصعبة تم تكليف كمبالا لها، ولهذا سارعت الأخيرة بالتدخل ولكن حتى تدخل كمبالا نفسه لم يعد مجدياً، إذ كما قلنا من قبل فقد يدخل في الصراع -بفعل تدخل كمبالا- طرف آخر من دول الجوار فالحرائق عادة لا أحد يتنبأ بالاتجاه التى تسير فيه.
وعلى أية حال تبقى برود السيدة رايس ولا مبالاتها وتغاضي إدارة الرئيس أوباما عن معالجة الموقف مع مقدرتها على ذلك لغزاً محيراً من الأفضل تركه للأيام والسنوات لتفصح عن سره الدفين!

هل الخرطوم قلقة مما تفعله كمبالا في جوبا؟

هل السودان منزعج من التدخل العسكري اليوغندي فى الصراع الدائر فى دولة الجنوب؟ هذا السؤال على بساطته يحوي إجابة معقدة. إذ أنه وحتى الآن لم يصدر بيان رسمي من الخارجية السودانية يدين هذا التدخل على الرغم من أن وزير الخارجية السوداني على أحمد كرتي قال للصحفيين مطلع الأسبوع الماضي إن قمة جوبا -بالخميس الماضي- ستناقش ضمن ما سيُناقش موضوع تدخل قوات أجنبية فى الصراع الجنوبي.
وأضاف الوزير أيضاً إن السودان معنيّ أكثر من أي دولة أخرى بأمن واستقرار دولة الجنوب لأسباب أمنية واقتصادية. غير أنه بالنظر الى هذه الأسباب الأمنية والاقتصادية -وهي دون شك معروفة- فإن من المؤكد أن التدخل العسكري اليوغندي يثير قدراً من القلقل لدى السودان، وذلك لعدة اعتبارات مهمة.
أولا، من الناحية المبدئية فإن للسودان موقف معلن وواضح بشأن التدخل فى شئون الآخرين الداخلية وقد ترجم هذا الموقف عملياً في المواقف التى جرت فى الشقيقة مصر قبل نحو من عام، ثم تمسك بذات الموقف فى الأحداث الجارية الآن فى دولة الجنوب.
وعلى هذا الأساس فإن السودان بوجه عام وبصرف النظر عن الجهة المتدخلة أو الطرف المخالف لهذا المبدأ الدولي يقف على طرفيّ نقيض مع كل من يتدخل فى شأن داخلي لأي دولة أخرى. وبالطبع لن يسع السودان سوى التأكيد على هذه الفرضية باستمرار اتساقاً مع مبادئه ومواقفه الصريحة المعلنة.
ثانياً: أعباء الصراع الدائر فى دولة الجنوب سواء تمثلت فى اللاجئين أو المساس بالنفط أو التأثير الأمني على المناطق الحدودية كلها تقع على كاهل السودان ويكفي هنا -إذا أجرينا مقارنة- أن نكتشف أن ثلث الفارين من الحرب فى دولة الجنوب نزحوا ولجئوا الى السودان، مع أن دولة الجنوب تجاور أكثر من خمس دول أخرى قريبة منها.
وعطفاً على ذلك فإن تحمُّل السودان لهذا العبء الثقيل من شأنه أن يتضاعف إذا ما أتسع نطاق الحرب جراء التدخل الأجنبي باعتبار أن هناك أطرافاً إقليمية أخرى وجيران آخرين لدولة الجنوب ربما يجتذبهم الصراع، طالما أن هناك جيران قد تدخلوا بالفعل.
بمعنى أدق فإن من شأن التدخل اليوغندي أن يفتح الباب واسعاً (لمن يرغب) من دول الإقليم المجاورة فى التدخل لحماية مصالحها، إذ ليست هناك دول جارة لا مصالح لها فى الدولة الجارة. وهذا في الواقع أكثر ما يثير قلق السودان، أن يجد نفسه فجأة فى أتون محرقة حرب إقليمية واسعة النطاق يكتوي بنيرانها الجميع بلا طائل.
ثالثاً: التدخل اليوغندي ليس تدخلاً بتفويض إقليمي أو دولي ومعنى هذا أن كمبالا إنما تدخلت (فقط) لمصالحها الخاصة وهو أمر شبيه بمن يتدخل (ظاهرياً) لفض نزاع نشب بين أفراد أسرة مجاورين له ولكنه (فى قرارة نفسه) يطمع فى (أمر من الأمور) داخل ذلك البيت.
وعلى كل فإن يوغندا بعلاقاتها المتأرجحة مع السودان والأدوار الغريبة -ولا نقول الدخيلة- على المنطقة هي دولة بالفعل تثير القلق والار

الشعبي هل يلحق بالأمة القومي نحو باب الخروج؟

لم يعد من المستبعد أن تبتعد خطى حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الدكتور الترابي عن حظيرة تحالف المعارضة ذات السياج المتهالك، إذ يبدو أن ذات (باب الخروج) الذي يقف عند عتبته حزب الأمة القومي منذ أشهر زاهداً فى الإقامة داخل الحظيرة القليلة الأوكسجين، الكثيرة الروث، هو نفسه الباب الذي يقف بقربه الشعبي.
فعوضاً عن الهجوم الحاد الذي شنه عضو الحزب الشيوعي المعروف كمال الجزولي على الدكتور الترابي محاكماً له على ما يعتبره جرماً سياسياً كبيراً بإسهامه فى واقعة حل الحزب الشيوعي فى ستينات القرن الماضي وما جره ذاك الهجوم من ملاسنة لفظية حادة بين الجزولي وكمال عمر سارت بسيرتها الصحف والأسافير وتضمنت شتى أصناف السباب؛ فإن متحدثين من أشتات اليسار السوداني فى ندوة بضاحية شمبات بالخرطوم بحري ابتدروا هم أيضاً من جانبهم هجوماً لا هوادة فيه على مسميات الإسلام السياسي والجبهة الإسلامية والحركة الإسلامية.
وكانت الصاعقة أليمة على الشعبي حين اكتشف بعض أعضائه الحاضرين للهجوم أن في مقدمة المهاجمين رئيس هيئة التحالف بنفسه فاروق أبو عيسى! وحينما أدرك المسئول السياسي للشعبي كمال عمر أن اليسار السوداني أعاد حشو جرحه بالملح قبل أن تجف الدماء التى أراقها الجزولي؛ أسقط فى يده، ثم سرعان ما تدارك الموقف ليقف ويقول إنه (هو) ممثل المؤتمر الشعبي والحركة الإسلامية والإسلام السياسي مذكراً أبو عيسى وزملائه -وكأنهم قد نسوا ذلك- أن الشعبي حليف معهم، وسيضطر -إذا دعت الضرورة- لوقف التعاون والتنسيق معهم!
هذا المشهد يعده الكثير من المراقبين بداية للعد التنازلي الحقيقي لوجود الشعبي بين ظهرانيّ التحالف، والأزمة هنا ليست مجرد أزمة عارضة، أو سوء تفاهم، أو إنفلات عابر فى الموقف وإنطلاق كل حزب من مكونات التحالف الهش من خيمته الخاصة ومضاربه، لأن الأمر اكبر من ذلك كثير.
وإذا جاز لنا تصوير خلفية المشهد فسوف نلاحظ أن اليسار (منذ البداية) لم يكن مطمئناً لوجود الأمة القومي والشعبي في التحالف سواء لطبيعة تكوين كل طرف منهما وتعارضها التام - الى حد التضاد - مع الآخر، أو لهواجس ومخاوف ظلت تنتاب اليسار من أن اليمين لا أمان له ولا صحبة ترجى منه.
ولن يفوتنا هنا إصرار كمال الجزولي بحدة بالغة على ضرورة تقديم الدكتور الترابي اعتذاراً عن حل الشيوعي وانقلاب يونيو1989م، والمدقق فى هذا الحديث الذي قد يبدو صغيراً أو عارضاً يدرك إدراكاً جازماً أن اليسار كان يخطط لفتح الباب والطلب من (الوافدين) الى التحالف إغلاق الباب وراءهم!
الأمر الثاني أن إدارة المسئول السياسي كمال عمر لتحالف حزبه مع التحالف لم تخل من بؤس وهو بؤس حار فيه قادة الشعبي المقربين جداً من زعيم الحزب وهم حتى الآن محتارون من هذا الواقع الماثل الأليم.
الأمر الثالث وهو الأكثر إيلاماً للشعبي على وجه الخصوص، أن التحالف لا يثق فى الشعبي على الإطلاق لأسباب معروفة، ولكن بالمقابل فإن كان كمال عمر -بتواضع خبرته السياسية- قدم تنازلات عديدة للشيوعي على وجه الخصوص وأظهر فى مواقف عديدة (مودة سياسية) للشيوعي يبدو أن الشيوعي كان يعتبرها (مودة من طرف واحد)، فقد سبق لكمال عمر أن قال إن حزبه الشعبي أقرب للشيوعي من الوطني!
وهكذا هي الممارسة السياسية بواقعيتها المعهودة لا مجال فيها للمجاملات حين يتعلق الأمر بمصلحة كل حزب ورؤاه وتطلعاته. ومن المؤكد أن التجربة أثبتت ألا سبيل للتحالف بين ألوان غير متجانسة.