الثلاثاء، 7 مايو 2013

البشير : سنساهم في تنمية جنوب السودان

أكد الرئيس السوداني المشير عمر البشير أن إتفاقات التعاون الموقعة بين دولتي  السودان وجنوب السودان، ستساهم بشكل كبير في التواصل المستمر بينهما لمصلحة شعبيهما.

وقال الرئيس السوداني خلال استقباله  وفداً من المجلس الأعلى لمسلمي جنوب السودان برئاسة الأمين العام للمجلس الطاهر بيور ، قال ان التداخل بين شعبي البلدين لم يتوقف حتى بعد الإنفصال ، مشيراً الي أن السودان يسعي لإعادة اللحمة بين الدولتين وسيساهم في تنمية جنوب السودان ودعم التعليم فيه.

وأكد الرئيس البشير أن زيارة وفد المجلس الأعلى لمسلمي جنوب السودان ، ستكون بداية لتعاون حقيقي بين الجانبين ، وأضاف أن البلدين يجمعهما المصير المشترك والثقافة والوجدان.

محمد جنجويد.. أكذوبة (القاتل المحترف) من كُتم الى كرايدون (3)

هرب صديقنا محمد عيسى سالم من معسكر (كرتون) فى إيطاليا فى الليلة التى تسبق إجراء البصمة عليه ورفاقه.. ليستغل قطار بلا وجهة محددة وينزل فى محطة كبيرة لمدة 25 يوماً أمضاها فى خيمة صغيرة تحت جسر المدينة ميتابندو.. 25 يوما يهرع مع جيران الجسر نحو الشاحنات التى تقلهم لمزارع العنب والتفاح والبطيخ ..ولأن غايته فقط هي بريطانيا خرج ذات صباح من خيمته ولم يتجه نحو الشاحنة التى كادت أن تمتلئ بجيرانه بل قصد المحطة وركب القطار..
تركناه تائهاً فى محطة قطارات روما يحمل عملة الاتحاد الأوربي (اليورو) رفض بائع التذاكر إعطاءه تذكرة الى لندن ولم يستفسره عن السبب لأنه لا يملك لغة الاستفسار..
عاد الى شباك آخر وذات الرفض : نو وابتسامة..  يكاد يكون قد جال على كل باعة تذكار المحطة.. الى أن قال له أحدهم : باسبورت ..فهز هو رأسه بالنفي فعاد البائع الى إجابات زملائها السابقة : نو مع الابتسامة..
جلس هناك حوالي ثلاثة ساعات حتى عثر شاب سوداني يحمل صحيفة ايطالية فهرع إليه وأوقفه وسأله المساعدة.. قال الشباب السوداني والذي لحسن الحظ نال الإقامة بايطاليا منذ ثلاث أشهر و حكى له عن صعوبة الخروج من هنا الى لندن غير انه أعطاه خيار أن يغادر الى فرنسا.. فوافق . .لا يهم أن يطول الطريق الى بريطانيا فالهمم أن يصل.. الشاب السوداني نسخ له صورة من إقامته ليتمكن من شراء تذكرة لنفسه شكره على ذلك.. وابتسم هو يستعيد مصاعبه فى الرحلة . تجيء على خاطره صورة متخيلة لمصطفي أبنه الذى سيكون الآن فى عامه الخامس .. فتشبث بحلمه أكثر حتى لا يضطر مصطفي الى سلوك ذات الدرب.. انتبه الى انه يقبض بقوة على ورقة وجدها صورة إقامة سوداني لم يسأله عن أسمه ولا هو فعل ولا يستطيع قراءة الاسم المكتوب بايطالية..
أكثر من ربع ساعة بعد أن استلم صورة الإقامة وودع صاحبها ظنها تعادل ساعات اليوم كاملة وهي يتحرق للوصول الى شباك تذاكر.. الآن أيقن أن صاحب الإقامة قد غادر المحطة حتى لا يتسبب له فى إشكالية فى حال اكتشاف أمرهما فتوجه الى الشباك ومد يده بالنقود وهو يقول: باريس .. بائع التذاكر استلم صورة الإقامة قبل القروش وتطلع فيها ونظر الى محمد قليلاً... الذى أخذ يسعل ويضع يده على فمه فيرجع له البائع صورة الإقامة ومعها تذكرة لباريس ...أنتبه الى أنه قال للبائع دون أن يشعر ودون أن يقصد وبالايطالية شكراً.. فتبسم البائع..
ومحمد ينتظر القطار شاهد ذات مشهده الذى عاشه قبل أن يلتقي الشاب السوداني.. شاب خمن أنه من تشاد وكان كذلك يجلس على مقعد المحطة وبجواره حقيبة بائسة و ينظر فى أسى للمغادرين والواصلين.. اتجه محمد ولم عليه بالعربي فرد التشادي التحية فوجد أنه يعاني ذات الأمر ... يدريد المغادرة ولا يملك وثيقة رسمية تسمح له بتحقيق ذلك... سأله محمد: إلي اين تسافر؟..
أجاب التشادي :الى أية مكان..
هو نسخة تشادية منه..
سأله محمد: باريس تنفع؟
أجاب التشادي: تنفع ونص وخمسة..
وضحكا ومحمد يقوده الى ماكينة التصوير ويعطيه نسخة من إقامة سوداني لا يعرف عنه شيئاً سوى سودانيته ..
الآن كليهما يحمل تذكرة برقم مختلف والى ذات المحطة باريس وبصورة إقامة لشخص واحد وليس لأحدهما.. ركبا  على عربة مختلفة حتى لا ينكشف أمرهما.. لكن شعور الرفيق لا يفارقهما ..اتفاقا أن يلتقيا فى محطة لكن هذا لم يحدث فالقطار هناك لا يتوقف إلا بما يسمح بنزول واصل وصعود مغادر وبسرعة..
لم يلتقيا إلا في فرنسا صباح اليوم التالي لمغادرتهما روما.. هنا قال محمد التشادي ما أوصاه به صديقه السوداني صاحب الإقامة : عندما تصل باريس تغادر بعدها بالقطار الى مدينة صغيرة يمكنك من هناك الهروب الى بريطانيا ... بقيا فى المحطة بلا دليل حتى جاءهم شاب إفريقي مد يده مصافحاً وسألهما:
مسلمان؟
هزا رأسيهما.. أن نعم..
قال لهما: الله اكبر..تريدان مساعدة؟..
أجابا نعم..
أخذ من كل منهما 170 يورو وعاد لها بتذكرتين الى مدينة تسمح لها بالهروب .. ثلاث ساعات بقيا ينتظران القطار ولم يأت.. مدا بتذكرتيهما لـ(خواجة) فأشار لها بالصعود الى اعلي وفعلا ذلك ليتبين لمها أن محطة المغادرة من هنا وليس فى مكانهما الذى وصلا إليه ..
الدقائق التالية كشفت عن نموذج لأفارقة محتالين وهو صاحبهما صاحب السؤال: مسلمان.. التذكريتين مضروبتين ومزورتين وقيمة التذكرة فقط 12 يورو.. ضحكا ومدا بـ24 يورو لشباك تذاكر وحصلا على تذكريتين لمدينة (كاليس) وصلا لها ونزلا وخرجا من المحطة الى الطريق الرئيسي ليعبراه الى الغابة وهذا ذات وصف صاحب الإقامة.. ليجدا أن الغابة تضج بحياة زملاء المغامرة.. كل العالم يهاجر... أفغان وآسيويون وأفارقة، بل وخواجات كمان.. الغابة كلها مكان لرحلة ترفيهية. أولئك  يطهون طعامهم وهؤلاء يتصفحون الصحف وبعضهم يلعبون الكوتشينة ..انضم هو رفيقه الى شجرة تضم عدة مجموعات ليلتحق بهما سوداني فيفرح محمد ويقابله بالأحضان.. هو من سيحقق لهما حلم الخروج من فرنسا..
قال له محمد :الوصول الى بريطانيا؟
ابتسم السوداني وهو يقول: هنا لا تختار الى أين تهرب.. نحن ننتظر العربة التى تأتي وتكون فيها فرصة لهروب على متنها وهي تأخذك الى حيث تذهب هي ..لا حيث ترغب أنت.. هنا يا صاحبي ما في هجرة طلب..
سأله محمد الذي ظن أن رحلته الى بريطانيا ستطول أكثر مما ينبغي..:
يعني شنو؟..
أجاب: يعني لو ركبت عربية أنتو حظك ممكن تلقاها ماشة السويد أو النرويج أو اسبانيا، لكن معظم العربات التجي بي هنا ماشة بريطانيا لأنه يفصلها عن فرنسا النهر ده وبيقطعوه بي باخرة فى اقل من 5 دقائق..
استلم من محمد 100 يورو وقال له: كن مستعداً..
ابتسم محمد هو قد كان مستعداً منذ أن امتطى قارباً بلاستيكياً من شواطئ ليبيا فجر يوم 17/6/2006م..
محمد الآن يرافقه السمسار السوداني ورفيقه سمسار كردي يقودانه الى شاحنة متوقفة فى محطة وقود.. قال له السوداني: صاحبي الكردي ده حيمشي للشاحنة ديك يفتح ليك باب الباب أنت تتلفت يمين وشمال لو الجو هادي تفتح الباب بسرعة وتركب حتلقى بضاعة وكراتين تختبئ بينها وربنا يكتب السلامة.. أها ودعناك الله..
الأمر تم بسهولة... هو الآن بين الكراتين ليجد هناك مغامراً آخر أفغاني بقيا بين البضائع ..صوت محرك الشاحنة دقائق وتتوقف.. حوار بالفرنسية بين السائق وآخرين تأكد لهما أنهما من الشرطة لسماعهما صوت جهاز التفتيش (تيت.. تيت.. تيت) قبل إن يسمعا صوت يقول : قو . والسائق يرد .. ثانكس.. محمد يثق الآن أنه سيصل الى بريطانيا فيعود الى مقره بين الكراتين ويرسم صورة لبريطانيا دون مصاعب في ظنه أنه دفع فى سبيل الوصول إليها كل المصاعب وبذل فى سبيلها التعب والعناء والجوع.. لو كان يدري أنه بعد اقل من 5 دقائق سيتحول الى محمد جنجويد وقاتل شريك فى قتل أكثر من 300 ألف شخص لما بدأ الرحلة ولبقي هناك في دامرة الشيخ بكتم.. لكن كرايدون تنتظره.

محمد جنجويد.. أكذوبة (القاتل المحترف) من كُتم الى كرايدون (2)

محمد عيسي سالم أبو قاسي.. محمد جنجويد لاحقاً حكينا قصة خروجه دامرة الشيخ بكتم بحثاً عن تحقيق حلمه.. بريطانيا.. عبر ليبيا التي وصلها في العام 2001م وكان وقتذاك في السادسة عشرة من عمره وبقي فيها ست سنوات مزارعاً وراعياً ومحافظاً علي قوة حلمه ببريطانيا حتى تخرج في مركب هو عنوان للمجازفة وتوقفت بهم علي بعد كيلومترات من شؤاطئ ايطاليا وألقي القبض عليهم من شرطة خفر السواحل الايطالية.. ثلاثين مغامراً جمعهم حلم الهجرة ومركب بلاستيك وقارب إنفاذ ثم انضموا الي آخرين كثر كانوا سكان المعسكر يشبهونهم في الحلم والحظ.
التعب يأخذ منهم كل مأخذ.. ما أن وطئوا أرض المعسكر حتي راح جل زملاء المغامرة في نوم عميق.. إلا محمد.. يجول في نواحي  المعسكر يتعرف علي الزملاء الجدد رغم حاجز اللغة.. فالفتي لا يملك إلا لغته العربية فقط ولسوء حظه – أو إمعاناً في امتحانه – لم يجد من يتحدثها.. ممثلون لكل شعوب العالم كانوا هناك.. همس في سره: كل العالم يهاجر.
ساعات بقي منتظراً أن يستيقظ الشاب الاريتري رفيق البحر ليتواصل معه.. فالاريتري عبر الي ليبيا من باب السودان وله من الكلمات ما تجعله (يحلل) بها صيام طال عن الكلام.
يكتشف لاحقاً أنهم في مدينة (لامبدوزا) وهي جزيرة ايطالية صغيرة وعدد سكانها قليل تضج بالحياة أكثر بسبب قدوم المغامرين عليها.. قال له الارتري متأثراً: (تحرك معنا من ليبيا اتنين مركب كبير وكلو غرق) ولم يكمل.. بكي .. فقد فيهما أقرباءه.. محمد شاركه بالصمت.. (300 غريق) هي حصيلة غرق المركبين.. وطال صمت محمد.. هل يحمد الله علي نجاتهم أم يحسد أولئك علي نهاية الحلم؟
والمساء يحل والمعسكر حلقات للحوار والتشاور (كل الناس اتنين اتنين) إلا محمد.. وحده قبل أن يأتيه الصديق الارتري بآخر ما يتناقله سكان المعسكر.. سيتم ترحيلنا إلي مدينة (كرتون) وهناك سنجلس إلي الاستجواب قبل إجراء البصمة توطئة للدخول في قائمة انتظار مقابلات اللجوء.. وقبل أن ينهي الارتري حديثه أخبره بنصيحة من قدامي المغامرين بضرورة التهرب من تسجيل البصمة.. قال له: ستحد من تحركك.
لم يدر محمد كيف نام ومتي؟.. استيقظ علي يد شرطي ايطالي توقظه وتمد له سندوتشاً وكوب عصير.. ويشير له أن استعد ..
محمد الذي كان حراً.. عاد إلي دامرة الشيخ وتذكر كيف أنه في سبيل حريته كان يدفع أغلي الأثمان.. وقد تذكر يوم شعر وهو ابن السادسة أن هذا المكان الذي يسمي مدرسة وهذه الحجرة التي هي الصف الأول ما هي إلا سجن يمنعه عن حريته ساعات من اليوم.. فترك شنطته القماش وما فيها من أقلام و (كراريس) ولحق بأبيه في الفضاء الذي لم يبدله منذ ذلك الزمان بمكان يحبسه فيه جدران.
انتبه الى الشرطي وهو يربط حزام الأمان علي خصره في طائرة صغيرة.. ابتسم بأسي علي ضياع حرية.. وسرعان ما عاد له حلمه الهامس يطمئنه ويسانده.. وطفق ينظر من الشباك إلي الأرض وهي تبتعد والفضاء يتسع.. ورغم صغر الطائرة وحداثة تجربته معها ورغم قيد حزام الأمان شعر بالحرية.. فالفضاء متسع والعالم شاسع والشرطي القابض عليه صار صغيراً وبعيداً..
هبطوا في (كرتون) حيث التحري والبصمة...20 شخصاً ضمتهم الطائرة.. أمضوا سحابة نهاركم في عنابر المعسكر وعصر اليوم  خرج ينقصي الأمر.. قابل تشادي وعرب لهجتهم تشير إلي المغرب العربي.. وأعادوا علي مسامعه التحذير من البصمة.. ما إن حل الليل حتي صحا الحلم الجامح فبحث عن التشادي وحدثه عن نيته في الهروب.. سأله: لكن إلي أين؟... أجاب بذكاء: أي مكان بدون (سلك شائك) وشرطة..
ما ظن أن هناك من يشبهه في الجموح والجرأة لكن الواقفون في ركن بعيد عن أعين الحراسة في ذاك المعسكر يساعدون بعضهم في تسلق السور يقول له أن هناك من يشبهونك.. وقفز.. الدليل كان من المغرب العربي.. قادهم بمحاذاة الطريق العام لكن من داخل غابة.. ست ساعات علي الأقدام.. والليل مضي واقتربت ساعات اليوم التالي وتعبت الأقدام .. مبنى مهجور علي طرف الطريق استكشفوه سريعاً ثم اتخذوه مقراً للمبيت..
الصباح بلا شاي ولا ماء، بل ولا مال.. بحث عن زملاء الأمس لم يجد إلا بعضهم.. تحرك ومعه إفريقي لا وسيلة اتصال بينهما إلا الإشارة ..
وبعد مسير لمدة تقل عن نصف ساعة وجدوا محطة قطارات استغلوه بلا تذكرة وبقيا مستيقظين حتى إذا لمحا (الكمساري) دخلا الى دورة المياه وهكذا تكرر الأمر ثلاث مرات قبل أن يصلوا محطة كبيرة نزل فيها عدد كبير من المسافرين علي القطار فنزل هو وبقي الإفريقي ينظر إليه.. وانتظر هو حتى تحرك القطار فلوح بالوداع للرفيق الصامت ورد ذاك التحية ودخل الى المحطة..
في احدى دورات المياه بالمحطة نظر الى وجهه وهيأته ليكتشف انه صار أشبه بالمتشرد.. بذل بعض الجهد لإعادة هيئته الى سابق عهدها ففشل.. الإعياء يلون نظراته.. خرج مستكشفاً المكان.. محطة قطارات اكبر من تلك التي غادروها.. كرتون.. يجد بار يلمح داخله مجموعة من خمسة أشخاص عليهم سيماء السودانيين اتجه إليهم..
صدق حدسه كانوا من قبيلة في دارفور غير أنهم لم يولوه كثير اهتمام فقط أشاروا إليه لمكان قريب من المحطة سيجد فيه مكاناً له.. ومضى حيث أشاروا ويدور في ذهنه سؤال: لماذا لم يدعونه لتناول بعض ما عندهم؟ أجاب هو ذاته: كنت سأرفض لأن بعض ما يشربونه يبدو أنه شراب حرام..
الآن هو المكان المشار إليه.. جموع غفيرة من شرق آسيا وأحباش وارتريين وبعض أفارقة يجلسون كلٌ في خيمته التي لا تتسع إلا لفرد واحد وهي أشبه بالمظلة يتخذونها سكناً لهم تحت هذا الجسر في مدينة (ميتابندو) .. أشار إليه أحد الأشخاص بضرورة شراء خيمة لتقيه المطر والبرد.. تحسس جيوبه .. لا شيء..  بقي في الانتظار الذي لم يدم طويلاً قبل أن تأتي شاحنة هرع نحوها كثير من المنتظرين فتبعهم محمد.. ساعة أو تقل ووجد نفسه في حقل كبير ويعمل في جني العنب.. وهكذا عاد في آخر اليوم وقد أضاف الى تعبه تعباً آخر وخمسين يورو هي حصيلة ذاك العناء .. اشتري خيمة وطعام.. ونام .. ليحلم بقطار طويل ..
25 يوماً قضاها هكذا بين الخيمة والحقل والحلم ثم حمل حقيبته صغيرة بها تي شيرت  واتجه الى المحطة الكبيرة فايطاليا ليست بغنية.. لذا لم يجهد نفسه في تعلم حرف واحد من لغتها كما يفعل جيرانه تحت الجسر.. محطة روما استقبلته.. تاه.. اتجه الى شباك التذاكر فمد يده باليورو طالباً تذكرة.. قال للبائع: لندن.. ابتسم البائع وهو يقول:    "no" .. تاه مرة أخري..... يتبع

محمد جنجويد.. أكذوبة (القاتل المحترف) من كُتم الى كرايدون (1)

وشمس السبت السابع والعشرين تمضي الى مستقرها بعد أن جعل من نهار ذلك اليوم مسرحاً لجريرة اقترفها قتلة من الجبهة الثورية ضد آمنين فى مدينة أم روابة بشمال كردفان وليحل المساء ونحن نمضي بمحض إرادتنا لمقر القاتل المحترف أو هذا ما أطلقته عليه صحافة بريطانيا وتحديداً الـ( ديللي ميرور) فى عددها الصدر 13/3/2013م، توقفنا على جانب أحد شوارع مدينة الخرطوم فى انتظاره.. وصوت المغني ينبعث من جهاز التسجيل بسيارتنا (مجلسك مفهوم شوفو رايق) رائعة خليل فرح فساهمت فى تقليل قلقنا من هذه الخطوة..
طرق خفيف على زجاج السيارة لننتبه الى شاب يبتسم بود و بعد سلام سريع يركب معنا ويوجهنا الى مقر سكنه.. ونصمت، إلا أن من توجيهاته لنا بالاتجاهات.. (لكنة) القبائل العربية بدارفور واضحة.. دخلنا الى حيث أشار .. شقة بسيطة جلسنا فى الصالة حيث طقم جلوس بسيط وجهاز تلفزيون كان وقتها يبث مباراة في كرة القدم..
الصمت ساد بيننا قبل أن نبدده بسؤال عن علاقته بكرة القدم، الفتى يشجع الهلال العاصمي..
ويتبيّن لك بعد تلك اللحظات أنه ودود ومنفتح رغم مسحة الحزن التى سرعان ما تغلف نظرته، وتتأكد من بساطته سريعاً ويجيبك على كل سؤال باختصار ولا يسترسل...
قليلاً قليلاً تسرب إحساسنا المتوتر باعتبار أننا نجالس (القاتل المحترف)..
الفتى لا يحمل أوراقاً ثبوتيه غير أنه يعطيك المعلومات المطلوبة فهو محمد عيسى سالم أبو قاسي من مواليد محلية كتم فى 14/7/1985م ينتمي لقبيلة رزيقي أولاد راشد .. كان يعمل بالرعي لماشيته وماشية أسرته حتى العام 2001 حين هاجر الى ليبيا لتبدأ رحلته مع القتل والإرهاب.. شارك فى قتل 300 ألف شخص ليصبح اسمه محمد جنجويد ..هكذا نشرت عنه الديلي ميرور..
محمد عيسى فى دارة الشيخ كانت حياته تسير كعادتها لا يكدرها شيء إلا ما لا يتوفر للماشية.. فيخرج مع القبيلة متنقلين بحثاً عن الكلأ والماء.. يدورون فى مساحة محددة قلّما تجد أحد أبناء القبيلة يرغب في البُعد أو الهجرة إلا محمد ..تزوج وعندما تحرك الجنين فى بطن زوجته فى العام 2001 تحرك فى عقله جنين الطموح فخرج بعيداً عن دائرة الماء والكلأ ليصل الى الجماهيرية العربية الليبية فى العام 2001 لم يلبث إلا أياماً قلائل يتأكد له أنها ليست إلا محطة لرحلة طويلة .. الفتى الذى بلغ من العمر وقتذاك 16 عاماً أمضى منه عاماً واحداً فى الصف الأول الابتدائي وخرج منه الى مدرسة الحياة.. أضاف الى عمره فى الجماهيرية الليبية ست سنوات وبعضة أشهر أمضاها مزارعاً حيناً وراعياً أحيان أخرى .. يجمع المال لرحلة ستطول... أيام ويصحو على حلم الوصول الى بريطانيا .. جنين طموح الفتى خرج الى الحياة فتطور الى جرأة مع الإصرار على تحقيق الحلم.. بريطانيا .. اتصالات متفرقة مع الأهل والزوجة.. يطمئن عليهم ويطأنهم عليه وسريعاً ما ينهي المكالمة قبل أن تبدأ رجاءات أن يعود.. خرج مصطفى إبنه الى الحياة وكاد هذا أن يقتل الطموح والحلم غير أنه سرعان ما عاد الى تحفيز النفس بالسفر...
السادسة من صباح اليوم السابع عشر من يونيو للعام 2006م، خرج صاحبنا من الأراضي الليبية لتتأكد جرأته وإصراره من الوسيلة التى استغلها للخروج.. امتطى قارباً بلاستيكياً خفيفاً ومعه ثلاثون مغامراً آخرين جلهم كانوا من إثيوبيا وارتريا .. ولأن القارب لا يحتمل فكان معهم من الزاد القليل .. زجاجة عصير وعلبة طحنية .. وحلم جامح .. الفتي دفع لشراء المجهول أو الموت في غالب الأحوال ألف وسبعمائة دولار وكان يعلم علم اليقين أن نسبة النجاة تقل كثيراً عن نسبة الموت والغرق فالبحر عنيد والمركب لا حيلة له إضافة إلى أن قائد المركب هو أحد المغامرين وظفه سماسرة الرحلة بعد تدريبه على القيادة ليصل إلى شواطئ ايطاليا ويترك القارب.. هذا في حال وصولهم!
الصمت يطبق على سكان المركب فقط صوت المحرك الذي يضيع وسط أصوات هدير البحر وغضبه عليهم .. ظلوا طوال الليل ساهرين.. لعلهم أرادوا أن يشهدوا آخر لحظات حياتهم.. غابت الشمس وبعضهم لم تدخل بطنه لقمة أو شربة ماء.. القلق والتوتر والتحسر على ارتكاب هذا الحلم الجريمة.. إلا محمد.. كان يجلس في مقدمة المركب ولا ينظر إلاّ إلى الأمام حيث لا شيء سوى الماء والأمواج المتلاطمة غير أن حلمه يقول له إن هناك ما بعدها.. انتبه .. وعاد يذهب إلى حيث المركب ليكتشف أنه قد توقف في عرض البحر.. جلبة وتوتر وبكاء من زملاء المغامرة.. إلا محمد بقي صامتاً وقلبه يحدثه أن الرحلة لم تنته بعد.. صورة إبنه مصطفي تلح على خياله فتدمع عينيه..
زميل مغامر يلوم قائد الرحلة عن كيف لم ينتبه لحاجة الرحلة من الوقود؟ ليفاجئهم القائد أنه لا علاقة له بالمركب إلا منذ أسبوع فقط حيث تم تدريبه ليقودهم وهو كان من المقرر أن يغادر في متنه مسافراً مثلهم..
الشاب الاريتري أخرج جهاز ثريا ليخاطب وبلغة انجليزية رقم الطوارئ وبعد أقل من نصف ساعة منذ أن استسلم المركب للموج يلعب به ويأخذه بلا هدى حسب ما تأثر به الريح ويوافقها عليه الموج وصلت بواخر خفر السواحل الايطالية..
أخبرهم الشاب الارتري وهم يصعدون على متن بواخر الشرطة أنه كانت تفصلهم عن الشواطئ الايطالية 10 كيلومترات فقط .. همهمات استهجان على سوء حظهم صدرت على جُل زملاء المغامرة .. إلا محمد الذي تمتم بحمد الله فما زال الطريق إلى بريطانيا ممكناً.. أو هكذا همس له حلمه العنيد.....

تلفون كوكو من (ثابت) الى (سيّار)!

مع فداحة الظلم غير المبرر الذى لحق باللواء تلفون كوكو وقد قضى ما يربو على الثلاثة أعوام فى سجون دولة الجنوب – دون تهم جنائية واضحة – ومع حتمية إطلاق سراحه سواء كان الزمن قد طال أو قصر طالما كان الرجل مظلوماً؛ فإن توقيت إطلاق سراحه –بكل المقاييس– حمل فى طياته رسالة سياسية بالغة الأهمية خطها الرئيس الجنوبي سلفا كير بقلمه الرئاسي لتصل الى قطاع الشمال وهو يجلس الى مائدة التفاوض مع الوفد الحكومي القادم من الخرطوم فى العاصمة الإثيوبية أديس .
رسالة الرئيس كير الموجزة والبالغة الدلالة هو أن القطاع لم يعد كما كان فى السابق مسنود الظهر من جوبا، وأن (لاعباً سياسياً محترماً) ونعني اللواء تلفون قد جرى الدفع به الى الملعب ليضع اللاعبين - من ذات الفريق - فى زاوية شديدة الضيق لأن اللاعب الجديد لم يكن يراد له أن يكون ضمن التشكيلة.
إن الوقوف عند توقيت إطلاق سراح كوكو – وجوبا تعلم أن القطاع يدخل مفاوضات مع الخرطوم وتعلم أن وزن اللواء كوكو فى مناطق جنوب كردفان، والحساسية العالية لدى عبد العزيز الحلو أحد قادة القطاع تجاه تلفون كوكو والمنافسة (أخرجت القطاع من غرفته الخاصة في البيت الجنوبي) وعليه أن يبحث عن مأوى جديد.
من هنا تجيء أهمية خروج اللواء كوكو من محبسه الى الفضاء السياسي السوداني عموماً والفضاء السياسي فى جنوب كردفان. فاللواء كوكو كما تقول مصادر وثيقة العلاقة به فى كادوقلي هاتفتها (سفاري) يتمتع بقبول سياسي واسع النطاق فى المنطقة لاعتداله السياسي وصدقه ونظافة يده.
والأكثر خطورة من كل ذلك انه يتمتع بولاء لقطاع واسع من الجيش الشعبي فى الفرقتين 9 و 10 من أبناء النوبة على وجه الخصوص وتربطه بهم –بحكم الدم واللحم– آصرة فريدة من نوعها وهو ما من شأنه أن يغيب عبد العزيز الحلو تماماً من الساحة.
وتشير المصادر الى أن الحلو وعلى وجه الخصوص فى العام 2009 لعب دوراً محورياً بالغ الخطورة فى الدفع باللواء تلفون الى الاعتقال لشعوره بأن اللواء تلفون شديد التأثير على القوات ويتمتع بثقتها ومحبتها، وله قاعدة جيدة فى أوساط الحركة فى المنطقة، خاصة وأنه ينحدر –مباشرة– من أثنية النوبة بعكس الحلو الذى قيل انه ينتمي الى قبيلة المساليت من جهة الأب وأن والدته هي المنحدرة من أصول تنتمي الى النوبة.
المفارقة هنا أن تلفون سوف يقلب الأوضاع فى المنطقة رأساً على عقب فهذا ميدانه الطبيعي . ولهذا لا تستبعد المصادر أن يكون الرئيس كير وفى إطار استعادته لسلطانه وترسيخ أقدامه بعد أن عانى طوال الأشهر الماضية من مراكز قوى جنوبية عرقلت علاقاته بالسودان قد قصد أن يضعضع أقدام قطاع الشمال ويهز الطاولة قليلاً تحت أقدامهم بإطلاقه اللواء تلفون كوكو فى هذا التوقيت المتزامن.
لقد فعلها الرئيس كير من قبل حين أجبر ياسر عرمان على الترجل من السباق الرئاسي فى العام 2010 فى أحرج وقت وقد دخل السباق مراحله الأولى. كانت تلك (قرصة أذن) من رجل المخابرات العتيد أختار لها التوقيت والأدوات فأصاب عرمان فى مقتل ولو كان – منذ ذلك التاريخ – لعرمان من وجود، فهو وجود أقرب الى الشبح منه الى الوجود من لحم ودم، فقد كانت تلك إشارة أراد بها الرئيس كير أن يؤكد لعرمان وبعض قادة القطاع أنهم لا يعنون لهم شيئاً!
ولكن عرمان وصحبه الأبرار لم يفهموا الدرس يومها وما فهموه حتى الآن. ويقال والعهدة على الرواة إن دعم قطاع الشمال فى الفترة السابقة كان محض تصرف فردي من غلاة المتشددين فى الحركة الشعبية الجنوبية دون موافقة الرئيس سلفا كير ولعل أكثر ما يدلل على هذه الفرضية أن الرئيس كير اضطر قبل حوالي 3 أشهر لإجراء عملية تصفية واسعة النطاق فى الجيش الشعبي كما تخلص من بعض القادة أمثال د. لوكا بيونق ثم على تقليص صلاحيات نائبه مشار، كل ذلك فى إطار توطيد سلطته ووضع القرار بكامله فى جوبا حيث القصر الرئاسي الأنيق.
ومن ثم فإن القطاع الآن ومهما كانت درجة ثقته فى جوبا تزعزعت  هذه الثقة فيه وهو يرى جوبا لا تكتفي فقط بإعادة علاقاتها القوية مع السودان وإنما تفرج عن أشرس خصومهم – وهو اللواء تلفون كوكو – فى آخر توقيت يمكن أن يخطر على بالهم!
عبد العزيز الحلو هو الآن الأكثر تعاسة بخروج اللواء كوكو، الكمندر ياسر عرمان هو الآخر ارتج لسانه لأنه لا يجيد الحديث بلغة (جنوب كردفان) كما كان يفعل فى السابق وهو يجيد بعض عبارات اللهجات الجنوبية!
لقد تحول اللواء تلفون كوكو من تلفون (ثابت) قليل الأثر، لا تتعدى فائدته دائرة وجوده فضلاً عن تقطع أسلاكه بالخارج والمحيط الذى نشأ فيه؛ الى تلفون سيار يعمل وفق منظومة الأقمار الاصطناعية السياسية بحيث لا تحده حدود وبإمكانه التواصل مع محيطه بسهولة فى كل المواقع والأخطر بإمكانه إرسال الرسائل القصير و (سحب الرصد) السياسي وتغيير النغمات!

أبيي.. هل يتاور الجرح ويندمل؟

من عبر حادثة اغتيال ناظر دينكا نقوك الناظر كوال مجوك والذي يعد فقداً للشعبين فى السودان وجنوب السودان، وذاك أن هذه الحادة المؤسفة أكدت على جدية البلدين فيما يمضي من سلام ولن تؤثر على علاقة الدولتين، وهذا حديث رئيسيهما، وأهم ما اتفاقا عليه أن تركا لآليات العدالة تحقيق ذلك مع ضرورة عمل اللجنة الإشرافية لتقوم بواجباتها . الحادثة تأذت منها الأطراف كلها فى المنطقة وألقت بظلال شملت الدينكا بالإدارية والمسيرية وفقدت قوات اليونسيفا الإثيوبية بعض أفرادها. فيما قام شباب دينكا نقوك بحرق سوق المدينة بالكامل وهدم السجد كرد فعل طبيعي لأن الفقد عندهم جلل، وما يزال الغموض يلف الحدث وهذا لا تظهر سوى التحقيقات.
ويعتبر ناظر الدينكا نقوك من قيادات المؤتمر الوطني ما قبل الانفصال وهو من أسرة نافذة فى مراكز القرار بدولة الجنوب وجيشها الشعبي، وكما أن الرجل عُرف بتشدده فى قضية أبيي فهو عرف بالتزامه كمسلم طيب المعشر يؤدي واجباته الدينية بانتظام، ولكنه قرّر دون مشورة أو ملاحظة أن يزور مناطق واليونسيفا ترافقه و تنسى واجبها.
نقول إن ما حدث أشعل نار فتنة تحتاج حكمة من كل الأطراف لتجاوزها دون مزالق وأول ذلك اللجان المقبولة للطرفين، وصوت العقل يجب أن يعلو بين الحكومتين ويلتزما الانصياع لما يحقق العدالة والاستقرار، وأول ذلك أن تلتقي إدارية أبيي مع نظارات المسيرة ودينكا نقوك بغرض تهدئة النفوس وتطييب الخواطر.
ولكن الذى ننتظره أن تواصل حكومتا البلدين دونما إكثار فى البيانات على أهميتها كإشعارات تبرز حسن نوايا الموقف السياسي لأنها لحظية تموت نضارة كلماتها، ولنعول على التواصل السريع وردة الفعل الايجابية بين البشير وسلفا كير مما يوجب أن تلحق مسرعة وفادة للجنة مشتركة تنزل ما اتفق عليه الرئيسان وتطمئن على سريانه.

الاثنين، 6 مايو 2013

الأخطاء الإستراتيجية في هجمات الجبهة الثورية

لو أنّ الخطأ الإستراتيجي للجبهة الثورية بهجومها على مناطق أم روابة وأم كرشولة اقتصر فقط على استعدائها لمواطني ولاية شمال كردفان بعد أن استعدت قبل ذلك مواطني جنوب كردفان لهانَ الأمر؛ فالسودانيون بطبيعتهم وسجيتهم المعروفة متسامحين، فالحرب الأهلية الأطول فى القارة الإفريقية بين شطري السودان والتي استمرت زهاء الربع قرن أسقطت مئات الآلاف من الضحايا من الشباب الغض والأطفال والنساء، ومع ذلك استطاع السودانيين أن يتجاوزوا كل ذلك وارتضوا تقرير الجنوب لمصيره وإقامته لدولته المستقلة وودعوا مواطني الجنوب بالدموع وتناسوا ما مضى.
الخطأ الاستراتيجي الذى اقترفته الجبهة الثورية فى هجومها هذا أنها أحيت وأعادت إنتاج ذات الماضي البغيض. محاولة أخرى لإنتاج جنوب جديد وحركة شعبية بمواصفات مختلفة هدفها هذه المرة ابتلاع السودان عبر ما يعرف بمشكلة المنطقتين.
وسواء قصدت أو لم تقصد فقد أثار الأمر انتباه السودانيين قاطبة، أن الجبهة الثورية ارتدت زيّ الحركة الشعبية بحثاً عن نيفاشا جديدة وتقرير مصير السودان وليس أطرافه الجنوبية أو الغربية وفى هذه النقطة الحرجة بالذات دقت الثورية ناقوس الخطر ليسمعه الجميع حتى قوى المعارضة نفسها، فقد زالت (بعض الغشاوة) عن بعض قوى المعارضة حين رأت رأي العين كيف نكلت هذه القوى الموتورة بالأبرياء والعزل وأحالت حياتهم المعيشية اليومية الى جحيم من النيران اللاهبة.
أفعال كهذه من المستحيل أن يكون مقصدها مقصداً سياسياً نبيلاً أو هدفاً إصلاحياً موضوعياً أو رغبة فى خلق حياة أفضل، فالذي يدمر كل وسائل العيش والحياة من محطات الوقود ومحطات توليد الطاقة ويطمس سجلات العدالة ويقضي على حقوق المواطنين لا يمكن أن يعد بحال من الأحوال فى خانة المصلح المنتظر.
إذن أول خطأ استراتيجي ارتكبته الثورية -وهي تظن أنها تحسن صنعاً- أنها أثارت ضدها الجميع حتى أولئك الناقمين على الحكومة نفسها يتمنون زوالها، إذ ليس مقياساً للقوة والجرأة أن تتفادى مواجهة خصمك وتوجه قذائفك باتجاه المواطنين ومنشآتهم الحيوية لا أحد تهمه مصالح السودانيين يفعل ذلك.
الخطأ الاستراتيجي الثاني أن الجبهة الثورية تركت أثرها خلفها حتى يسهل على الجيش السوداني أن يقتفي هذا الأثر ويصل عاجلاً أم آجلاً الى مكمنها، إذ يقول خبراء العصابات أن نقطة الضعف الرئيسية فى هذا النوع من الحروب أنها ومع كونها سريعة وخاطفة إلا أنها تترك أثراً يسهل على الجيش النظامي المحترف اقتفاؤه ومن ثم تأتي المبادأة هذه المرة من جانبه ليسيمها عذاباً لأنها في الأصل لا ترغب ولا تريد هذه المواجهة إذ بمثلما تكبدت هذه القوات مشاق التخفي والوصول لهدفها، فتحت الباب من خلفها ليلاحقها الجيش السوداني.
ولعل أسوا ما في هذه النقطة أن هناك منطقة عازلة قائمة وآليات مراقبة ومن المحتم أن يستقر المقام بهذه القوات بمركز من المراكز داخل الحدود السودانية ويستطيع الجيش السوداني الوصول إليها وحينها لا مجال للهرب!
الخطأ الاستراتيجي الثالث أنه ومهما كان قدر التعاطف الذى تجده الجبهة الثورية والدعم الخارجي، فهي –وأمام العالم بأسره – وبأدلة موثقة ارتكبت مجازر وجرائم حرب لا مجال لإنكارها أو تبريرها سواء في أم روابة أو في أم كرشولة وبهذا أصبحت مسئولة جنائياً عن جرائم طازجة ومثبتة تجعلها محل ملاحقة وطنية ومحلية ودولية.
ولعل الأمر المؤسف بشأن هذه المغامرة المثيرة للسخرية أن مقياس النصر والهزيمة فيها منعدم تماماً، إذ ليس مقياساً للنصر أن تهاجم مدينة آمنة وتروع مواطنيها وتقضي على وسائل الحياة فيها، هذا ليس من فنون الحرب في شيء ويفتقر لعناصر الفروسية والمعرفة بمواجهة الخصم وجهاً وجه، وهذا يستشف منه –وفق الانطباع الذى ترسيخ لدى كل السودانيين– أن الثورية لا تملك القوة الحقيقية لفرض إرادتها، وتخشى فى الوقت نفسه مواجهة الجيش السوداني ومن ثم فهي ليست جديرة بالاحترام كخصم سياسي يزعم أنه يقاتل من أجل قضية.