الأربعاء، 28 أغسطس 2013

شخصيات سودانية معارِضة سادت ثم بادت!

تساقط فى خضم الساحة السياسية الفوارة الكثير من الساسة الذين بنوا عملهم السياسي على فرضية (فعل أي شيء، والتحالف مع الشيطان) لإسقاط النظام . الساحة السياسية زاخرة بالعديد من النماذج فحين تغيب المبدئية وتصبح السلطة هماً وهدفاً فى حد ذاتها ويغيب البعد الوطني والأخلاقي فإن المعارضة تصبح عملاً من أعمال الحرب ضد السياسي نفسه.
الدكتور يوسف الكودة واحد من النماذج المعاصرة اللافتة فالرجل انطلق من منصة السلفيين (أنصار السنة المحمدية) وكان ملء السمع والبصر بصرف النظر عن مواقفه ومدى صحتها ولكنه على كلٍ كان يعمل في ما يمكن أن اعتباره (سياجاً وطنياً) بل يمكن اعتباره نموذجاً فى ذلك الحين، الشاب الشهير الباحث عن (الطريق الوطني الخالص) وسواء كان الانقسام الشهير داخل جماعته بسبب المشاركة فى الحكومة بسببه هو أم لأسباب أخرى، فإن الكودة على أية حال حتى ذلك الحين كان لا يزال يحتفظ بمساحة معتبرة من الثبات على المبدأ والمرونة فى الحركة.
غير أن الطامة الكبرى التى أودت بالدكتور الكودة كانت من جانب آخر مختلف تماماً، فالشاب النابه اعتقد أن (الأوان قد حان) لركوب القافلة المتجهة الى السلطة وهي قافلة كانت تقودها جماعات مسلحة هي التى تتشكل منها ما يسمى بالجبهة الثورية. لقد كانت قاصمة الظهر للدكتور الكودة توقعيه على وثيقة الفجر الجديد بكل ما حملته وما عنته هذه الوثيقة الشؤم من جنوح نحو العلمانية وتقسيم السودان وتغيير هويته.
منذ اللحظة التى جلس فيها الكودة الى كلٍ من عقار وعرمان والحلو خط بقلمه إمضاؤه على ما اعتبروه هم نصراً له بإجتذابهم واستقطابهم لسياسي شاب سلفي الهوى وناشط لا يخلو من مرونة فى الحركة، كان د. الكودة يمحو تاريخه وإسمه من السجلات السياسية الرسمية فى السودان.
ويقول قريبون من الرجل طلبوا عدم الإشارة إليهم إن الكودة خدعته المظاهر المتمثلة فى البريق الإعلامي، واستهوته سرعة (سيارات الدفع الرباعي) المحملة بالبنادق و اجتياحها المدن واعتقد أن دخولها الخرطوم مسألة وقت وعليه أن يحجز مقعداً متقدماً له.
كانت كارثة الكودة التى لم يستطع الفكاك عنها انه فقد الاثنين معاً، فقد عشيرته السياسية الداخلية والذين كانوا منحوه ثقتهم فى حزب الوسط الإسلامي ثم خسر حلفاؤه فى الثورية الذين لم يستطيعوا أن يستفيدوا فائدة سياسية كبيرة من توقعيه، فقد كان هدفهم هو الغرر به بإعتباره ذا تجربة متواضعة فى المضمار السياسي وكانوا يتخذون منه غطاءً سياسياً ودينياً يباهون به ولكن الكودة الذي لم يكن يحتمل (النضال) ولا كان مهيئاً لمواجهات مع الشارع السياسي العام والسلطة الحاكمة جعلته تجربة السجن يعض بنان الندم على هذه الكبوة.
كان من الممكن أن يصحح الرجل خطؤه أو يتراجع أو يراجع، ففي السياسة كل هذه الخيارات متاحة، ولكنه آثر الابتعاد والانزواء بعيداً هنالك فى سويسرا فيما اعتبرها البعض (اختياراً للحياد) باعتبار أن سويسرا دولة محايدة دولياً.
إن اختيار د. الكودة العيش فى سويسرا ولو الى حين معناه أن الرجل نادم على المواجهة على ما أقدم عليه ولوث تاريخه ولم يعد قادراً على المواجهة وإحتمال النتائج، وهذا المصير ينتظر كل من مبارك الفاضل ونصر الدين الهادي والتوم هجو، فحين يقع السياسي فريسة لوحوش كاسرة فإن نجاته من بين أظافرهم تعتبر في حد ذاتها نصراً. هم نموذج لساسة سادوا ثم بادوا!

أسباب مخاوف جوبا الأمنية مؤخراً!

أصدر وزير داخلية جنوب السودان – الأسبوع الماضي – قراراً يحظر حمل أي نوع من السلاح وإلغاء تراخيص حمل السلاح، عدا تلك التى تحمل خاتم وزارة الداخلية.
قد يعتقد البعض أن هذه الخطوة لا صلة لها بالسودان وأنها محض شأن جنوبي داخلي تسعى بموجبه الحكومة الجنوبية -لأسباب قدّرتها أو عانت منها- لاستتباب الأمن فى الدولة الوليدة. ولكن الأمر له صلة بالعلاقات السودانية الجنوبية بطريقة غير مباشرة.
فالقرار الجنوبي لم يأت من فراغ لأن الحكومة الجنوبية الحالية جديدة يبدو أنها جاءت بإستراتيجية أمنية جديدة، كما يبدو وليس بمستبعد أن تكون للحكومة هناك مخاوفها وهواجسها من ردة فعل محتملة حيال خطة الرئيس الجنوبي -الصعبة- بإحالة كبار مساعديه وتحويل بعضهم للتحقيق، ولكن من الجانب الآخر فإن الخطوة الجنوبية فيها إشارة ضمنية الى شعور جوبا (بعدم الأمان) وهذه نقطة هامة وجوهرية فى الموضوع كله!
شعور جوبا بعدم الأمان أسبابه عديدة وتأتي فى مقدمتها مخاوفها من ردة فعل المقالين من الحكومة ومناصريهم، فقد لزموا الصمت حتى الآن وهو دون شك صمت ليس من المتوقع أن يستمر طويلاً والى الأبد. فى الواقع مخاوف جوبا بعدم الأمان هي مخاوف مردها الى تورطها السابق والقائم حالياً فى دعم مجموعات سودانية مسلحة تنشط ضد الخرطوم، ففي الغالب فإن شعور دولة ما بأنها متورطة فى شأن داخلي لدولة أخرى يجعلها تعيش ذات الهاجس الأمني الذي تعبث به مع الدولة الأخرى.
بمعنى؛ الآن جوبا باتت أكثر تخوفاً –عن أي وقت مضى– من انتشار السلاح داخل المدن وداخل العاصمة تحديداً لأنه من غير المعروف عماذا سيسفر انتشاره. وهذا بدوره نابع من أنها تخشى في الواقع هجمات مباغتة هنا أو هناك، بعدما كانت بالأمس القريب تنعم بالأمن وتصدِّر الاختلال الأمني الى الحدود السودانية والمدن السودانية القريبة منها.
إن جوبا أيضاً (ليست واثقة) من ما إذا كانت قادرة على إيقاف دعم المسلحين السودانيين فى ظل صراعها الداخلي أم لا؛ فإذا كانت قادرة على ذلك فإن عليها -كخطوة أولى- أن تفك ارتباطها بهم نهائياً وبصورة جذرية قاطعة، فهي على الأقل تعيش الآن حالة من الارتباك الأمني المشوب بالحذر، والهواجس هي نتيجة طبيعية لما اقترفته أيديها فى حق السودان لسنوات خلت.
الأمر الثالث أن من غير المستبعد تماماً – وجوبا مرتع خصب للاستخبارات الدولية – أن تشهد فوضى أمنية عارمة تطيح بحكومة الرئيس كير ومن ثم تصبح خسارتها مزدوجة، خسرت نفسها وأمنها وخسرت رهانها الخاسر أصلاً فى كف يدها عن العبث بأمن السودان.
وأخيراً ربما تخوفت جوبا أيضاً من الثورية، فالثورية بالنسبة لجوبا بدت مثل الأسلحة الأمريكية التى يتم تصنيعها فى معامل خاصة (تحت الأرض) وبعناية خاصة ولكنها تفقد السيطرة عليها فتصبح وحشاً كاسراً ينقضّ أول ما ينقض عليها هي. الثورية ربما تم توظيفها فى وقت ما – تتخوف منه جوبا – لتوجيه سلاحها الى جوبا أولاً قبل الخرطوم فأمثال أموم ودينق ألور بجراحهم النازفة لا يتورعون عن القيام (بأي شيء) لاسترداد كرامتهم وماء وجههم المراق!

الأربعاء، 21 أغسطس 2013

أورنيك 8 سياسي!

كان أمراً غريباً -من الوجهة القانونية والسياسية- أن يستدعي أجنبياً مواطناً من رعايا دولة أخرى بأمر منه ويستجيب المواطن للاستدعاء ويجهل الكل ما دار بين الاثنين!
إستدعاء الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت لياسر عرمان الأسبوع قبل الماضي كان على وجه الخصوص المثال الأغرب من بين أمثلة عديدة تعيشها السوح السياسية لغرابتها. ولعل أول مكمن الغرابة أن الرئيس الجنوبي -وهو واثق مما يفعل- وجّه أمراً لياسر عرمان للحضور لمقابلته فى جوبا. عرمان من جانبه -وهو يثق فى رئيسه لبى النداء بسرعة!
قد يقول قائل إن الأمر يصب فى مصلحة السودان إذ ربما أراد الرئيس الجنوبي – فى سياق ترتيبه لبيته الداخلي – إجراء ترتيبات فى ذات البيت ولكن هذه المرة (من الخارج) أي على الحوائط الخارجية والسور وحديقة الشارع.
المؤسف فى هذه القصة المحزنة أن مواطناً سودانياً تجاوز وازعه الوطني وأصبح (خادماً) لدولة أجنبية يستجيب لما تقرره وتأمر به، والأكثر حزناً أن شاب مثل عرمان لديه ما لديه من الخضوع ليقبل (تعليمات) صادرة عن رئيس دولة أجنبية حتى ولو كانت هذه التعليمات تتمثل فى رفع يد جوبا عن دعم عرمان ورفاقه. إذ من المؤكد أن عرمان الذى رضخ من قبل -رغم صفة العناد المعروفة عنه- لقرار الرئيس كير بالانسحاب من الترشيح لرئاسة الجمهورية فى العام 2010، قابل للرضوخ لإملاءات جديدة، فسيادة عرمان الوطنية يستمدها من جوبا بدلاً عن الخرطوم!
مؤدى هذا الواقع أن عرمان ليست لديه لا هو ولا رفاقه فى قطاع الشمال أو الثورية قضايا وطنية سودانية حقيقية مطروحة.
عرمان ورفاقه يأتمرون بأمر الرئيس كير. والغريب هنا أن الرئيس كير الذي (فاجأهم) من قبل بالانعطاف يميناً وهو يلقي بالإشارة يساراً حين دفع مواطنيه نحو الانفصال وأعملَ معوله فى هدم السودان الجديد، ما يزال يمارس سطوته عليهم، إذ لم يكف الخداع الذى مارسه عليهم وها هو يمارس عليهم سطوة من نوع فريد.
الأمر الثاني الأكثر مدعاة للأسف أن الرئيس كير إذا كان عازماً على رفع يده عن القطاع فالأمر لا يحتاج لاستدعاء (مواطن سوداني) معارض ليقوم بالمهمة السهلة. باستطاعة الرئيس كير الذى أقال حكومة بكاملها فيها من فيها من غلاة القادة المسنودين بقائل مؤثرة، أن يفعل ذات الشيء فى مواجهة القطاع دون الحاجة لاستدعاء أو تشاور أو اجتماع مغلق.
الأمر الثالث فيما يبدو أن الرئيس كير (يثق) في أن عرمان لديه (موهبة القيام بالمهام القذرة) فكل قائد يعرف قدرات ومواهب مرؤوسيه، فقد أختاره دون عقار والحلو ليتشاور معه حتى يقوم عرمان بما هو مطلوب، وليس سراً فى هذا الصدد أن الرئيس كير بخلفيته الاستخبارية ربما أراد إيقاع الفتنة بين قادة الثورية والقطاع بحيث يكون حديثه مع عرمان قابلاً للتأويل وإثارة القلق لدى بقية الرفاق، ففي ذلك المزيد من إحكام السيطرة على القطاع والثورية طالما أن الخيوط بيد الرئيس سلفا.
وعلى ذلك فإن من المؤكد أن عرمان من جانبه سعد باللقاء المخصوص فهو على  الأقل يتيح له الاحتفاظ بأسرار تقلق بقية رفاقه، وأما الرئيس كير فهو سعد باللقاء لأنه أحكم السيطرة على الجميع، ففي الواقع فإن الرئيس كير أراد منح عرمان (أورنيك 8 سياسي) لمداواة جراح المبعدين أمثال مشار ودينق ألور وأموم، فهم مصابين فى حادث جلل ارتجت له أرجاء جوبا على أن ينجح عرمان فى التعامل مع القضية بالطريقة المطلوبة.

الثلاثاء، 20 أغسطس 2013

تبرع أمريكي

لو أردتم معرفة مدي العلاقة بيننا والولايات المتحدة الأمريكية، فدونكم ((تبرعهم)) السخي بخمسين ألف دولار، تنقص ولا تزيد، بمناسبة كارثية السيول والفيضان والأمطار التي ضربت عموم السودان .. فلابد أن سفارتهم عندنا والقائم بأعمالهم، الذي زار من قبل الشيوخ والقباب ورجال الطرق الصوفية، ضربت أخماسها في أسداسها وتعاملت معنا مع سعر (دولارهم) المستعر والصاعد، ومن ثم فإن الخمسين ألف دولار في عرفهم الاقتصادي والتجاري هي على أرض الواقع ثلاثمائة وخمسين ألف جنيه سوداني .. وليتهم أعلنوها بالجنيه ((ليكبروا كومهم)) ويعلو من شأنهم، ويرفعوا من قدرهم، فلابد إن تلك ((فاتت)) عليهم، لكن لا بأس، فعلي الأقل على حكومتنا السنية إدراك حجم معزتها عند حكومة (العم سام)، وهي في كل الحالات تشكر على المبادرة والمبادأة في وقت لم تتحرك فيه دولة عربية أو أفريقية أو إسلامية سوى ((قطر)) التي فتحت جسراً جوياً، كعهدها دائماً في مثل هذه (الملمات).. وتبعتها الجارتان أثيوبيا ومصر.
ولو كان عندي القرار في حكومة بلدنا لرددت الخمسين ألف دولار الأمريكية إلى سفارة أمريكا في الخرطوم، مع بطاقة شكر واضحة (سعيكم مشكور لكنه مرفوض) .. فماذا تفعل (حفنة) دولارات في صد مأساة إنسانية، وكارثة حقيقية لها ضحايها من الأموات ومن المشردين ومن فقدوا المأوى والسند والحياة الطبيعية .. لكن سفارة أمريكا في السودان ((عقليتها)) فيما يبدو اختلط عليها البقر، وهي قمة المأساة التي فشلت في إدراكها وتداركها حتى لو بعثنا لها بمذكرة تفسيرية أو (تصحيحية) أو .. (توضيحية.
فمن حقنا أن نجرؤ على مخاطبة أمريكا بأن (بضاعتها قد ردت إليها)!!

المفاوضات المستحيلة!

مع أن السياسة ربما كانت لا تعرف المستحيلات باعتبار أن المستحيلات أموراً نسبية فى أغلب الأحيان؛ إلا أن من الناحية العملية فإن إمكانية جلوس الحكومة السودانية مع قطاع الشمال فى جولة مفاوضات جديدة على المدى القريب تبدو مستحيلة، ويمكننا فى هذا الصدد تعداد العديد من الأسباب.
أولاً، الخطأ القاتل والمميت الذي وقع فيه قطاع الشمال -ولا يزال يرزح تحته- هجومه وهو يتزيّا بزيّ الجبهة الثورية على كردفان. الهجوم أسفر فيه القطاع – بقصد أو بغير قصد – عن وجه إنتقامي متشفيّ، اقتص واقتنص فيه المدنيين الأبرياء.
هذا الهجوم نزع عن القطاع امكانية إعادة إدماجه فى الصف الوطني فهو عمل أخرق، أعطى انطباعاً سياسياً مؤثراً بأن القطاع يسعى (لأكل الكيكة) السودانية بكاملها وأن الخطة أكبر من مجرد قطاع ثائر له مظالم سياسية، وهذه بدورها أقامت حاجزاً نفسياً بينه وبين كافة المكونات الشعبية السودانية، ففي حالة الحركة الشعبية مثلاً كان هناك خيار الانفصال باعتباره علاجاً شافياً لمرض الجنوب، وأما فى الحالة الراهنة فإن من الصعب القبول بقطاع -نفسياً وسياسياً- يسعى لتفتيت بنية الدولة السودانية لصالح قوى دولية بمالها وعتادها.
ثانياً الحكومة السودانية أدركت أن القطاع يسعى لتكرار ما كانت تفعله الحركة الشعبية فى السابق وأنه ربما يكون مقتفياً لذات أثرها ومن الطبيعي أن أي سياسي حصيف لا يكرر تجربة واحدة مرتين.
ثالثاً، القطاع نفسه ليست لديه أطروحات وطنية جادة قابلة للتنفيذ، فالطرح العلماني أمر لم يعد مستساغاً البتة فى السودان، وطرح هوية الدولة – من جديد لم يعد أمراً قابلاً للتفاوض بعد كل هذه التضحيات التى قدمها السودان والثمن الباهظ الذى دفعه من وحدته، والقطاع يسعى لذات هذه الأطروحات عن عمد وسعياً لتقسيم السودان.
رابعاً التفاوض نفسه يحتاج لمعطيات على الأرض وقطاع الشمال حالياً لا يملك على الأرض سوى استناده على جوبا والقوى الدولية. ليس للقطاع أثر يذكر على الأرض، وليست هنالك قاعدة جماهيرية من أي نوع للقطاع فهو حتى فى ظل وجود الحركة الشعبية فى الفترة الانتقالية كان يعاني ما يعاني.
وأخيراً فإن أصدق ما يؤكد استحالة التفاوض أن الوسيط المشترك نفسه لم يبدِ حماساً لتحديد موعد جديد للمفاوضات. وبصرف النظر عن الأسباب فإن الرجل يعلم أن المعطيات الماثلة لا تشير الى إمكانية إحراز نجاح والأمر الأكثر خطورة أن الوسيط المشترك يعلم أن القطاع لا يتحرك وحده وإنما يلبس ملابس الثورية ويجرّ معه حركات دارفورية، وهذا سوف يعقد أي تقدم يمكن إحرازه فسوف يعود القطاع – بعد أي مفاوضات – إلى الثورية ويواصل عمله المسلح فيصبح الأمر مثل ساقية جحا!

حركة جبريل إبراهيم.. البحث عن مسرح!

العدوان الذي نفذته حركة جبريل إبراهيم مؤخراً على قافلة تحمل وقوداً فى طريقها الى أبيي إنما يندرج تحت عنوان عريض، وهو محاولة للبحث عن مسرح لافت، شديد الأثر، كثيف الضوء. فالوقود المعتدي عليه يخص قوات حفظ السلام فى أبيي (يونسيفا) وهي قوات تعمل تحت إمرة الأمم المتحدة والوقود يخص المنظمة الدولية ومن المعروف فى هذا الصدد انه لا يجوز التسامح مع أي معتدي على قوات دولية أو عتادها أو متعلقاتها، والسؤال هو هل كان العدوان لمجرد الاستيلاء على شحنة الوقود أم لأهداف أخرى أبعد أثراً؟
الواقع إن العدوان استهدف أهدافاً عدة، أولاً ولعل هذا هو الأهم – أنه أراد لفت الأنظار بصورة حادة فمنطقة أبيي مثار اهتمام دولي كبير نظراً للنزاع الكبير الناشب حولها بين السودان وجنوب السودان، وهي مسرح مضيء ومحط أنظار الجميع وحركة جبريل إبراهيم على وجه الخصوص انزوت فى الآونة الأخيرة وانحسرت عنها الأضواء تماماً، خاصة بعد ذوبانها فى ما يسمى بالثورية وانسلاخ عدد هائل من خيرة قادتها بلغ مدي تأثير انسلاخهم حد اضطرارها لتصفيتهم. حركة جبريل باتت تواجه شبح الموت المحتم، ولهذا فقد بحثت عن مسرح يضعها أمام المتفرجين.
ثانياً وهذا أيضاً لا يقل أهمية عن الأول، فإن حركة جبريل فى حاجة ماسة جداً للدعم والتشوين والعدة والعتاد فهي لا تملك جهات داعمة، وفى الوقت نفسه لا تملك ما يعينها على الحياة، وما توفره لها الثورية قليل من جهة، ويقع ضمن نطاق سيطرة الثورية خاصة قادة قطاع الشمال وحدهم، الأمر الذي يجعل من إمكانية حصولها وحريتها فى الحصول على الدعم من رابع المستحيلات ولهذا فإن الاعتداء وفر لها قدراً من الدعم الذي هي فى حاجة إليه سواء كثر أو قل. ثالثاً اختارت حركة جبريل منطقة أبيي ربما لسببين: الأول علمها بأن المنطقة منطقة اشتعال ولكنه اشتعال لم يبدأ ومن ثم يسودها هدوء وإن كان هدوء حذر.
السبب الثاني استعبادها لفرضية وجود قوة من الجيش السوداني تضعها فى مواجهة، فالمنطقة منزوعة السلاح إلا من قوات اليونسيفا، وهي قوة منتشرة داخل المنطقة وتقوم بمهمة المراقبة وبسط الأمن. حركة جبريل اختارت منطقة مناسبة للانقضاض على القافلة دون أن تلاحقها اليونسيفا ودون تواجه قوة من الجيش السوداني، وهذا يستخلص منه -للأسف الشديد- أن الحكومة الجنوبية – بطريقة أو بأخرى – عملت على تسهيل مهمة حركة جبريل لأن من غير المتصور أن تسلك طريقاً محفوفاً بالمخاطر داخل الأراضي السودانية.
الأرجح أنها دخلت الى المنطقة من الجانب الجنوبي والجانب الجنوبي لا يضره استراتيجياً حدوث حدث كهذا بل على العكس قد يخدم إستراتيجيته فى إشعال المنطقة وإظهارها بمظهر المنطقة غير المستقرة حتى يفكر المجتمع الدولي فى وضعها تحت الوصاية الدولية.

آخر أحلام المعارضة.. الاستثمار فى الأمطار!

مع أن مستوى أداء المعارضة السودانية طوال ربع القرن المنصرم أداء شديد التواضع بحيث أزهد الكثيرين فى الحديث عن المعارضة، إلا أن قوى المعارضة ما تزال ترفد الساحة السياسية فى كل يوم بجديد أكثر إثارة للشفقة والحزن!
إذ أنه وبُعيد الأمطار الكثيفة التى هطلت فى أجزاء متفرقة من السودان وألحقت أضراراً بالمواطنين والمنازل والمنشآت العامة طالبت قوى المعارضة الحكومة السودانية بالاستقالة!
كمال عمر الأمين السياسي للشعبي ومسئول الإعلام فى تحالف المعارضة قال إن على الحكومة السودانية أن تستقيل جراء ما لحق بالبلاد من أضرار سببها السيول والفيضانات!
ومن المؤكد أن مثل هذه المطالبة -البائسة واليائسة- هي فى حد ذاتها تعبير واضح عن مدى عجز وضعف المعارضة رغم كل تحالفاتها المختلفة بحركات مسلحة، فقد انتقلت فجأة من خانة إسقاط النظام بشتى السبل الى خانة مطالبته بالاستقالة!
هذا الانتقال لم يثر أدنى قدر من الحياء لدى القوى المعارضة، فهي من الأساس سعت ولا تزال تسعى لإسقاط النظام، ووصل بها الحال فى بعض الأحيان الى درجة (التحضير لمرحلة ما بعد الإسقاط) أما الآن فهي تطالب باستقالته! والمطالبة بالاستقالة سببها - حسب هذه القوى - هو فشل الحكومة السودانية فى درء آثار الأمطار!
إن السودان ليس استثناء من العديد من دول العالم التى تضربها مثل هذه الكوارث من حين لآخر. الولايات المتحدة الدولة العظمى والأنموذج الأسطع فى كل شيء ضربها أكثر من فيضان وألحق بها أضرار لا أول لها ولا آخر على الرغم من أنها – بأجهزة الرصد المتقدمة – استعدت وأعدت العدة لمواجهتها، فهذه الكوارث طبيعية – من السماء الى الأرض، لا مجال فيها لإلقاء اللوم على أحد.
الصين عانت من ذات الشيء، واندونيسيا هي الأخرى واجهت مصيراً مشابهاً؛ وهكذا ففي كل عام هنالك بلدان تسقط ضحية لكوارث طبيعية والسودان شأنه شأن الدول التى واجهت هذه الكوارث يعمل فى حدود إمكاناته على التخفيف منها ودرء آثارها.
صحيح أن هنا وهناك بعض الأخطاء الهندسية فى مجال تصريف المياه، وصحيح أيضاً أن بعض الإنشاءات لم تكتمل بالسرعة المطلوبة مثل مشروعات الصرف الصحي، ولكن بالمقابل ما من شيء يمكن فعله إزاء كارثة طبيعية ماحقة كهذه، كما لا يمكن إلقاء اللوم على الحكومة السودانية وحدها وهناك الآلاف من المواطنين الذين يفضلون السكنى فى المناطق المنخفضة ومجاري السيول.
والغريب هنا، أن السلطات السودانية حين تمنع ساكني المنخفضات -عشوائياً- من السكنى فيها فإن الصحافة السودانية تنبري للدفاع عن المواطنين وتملأ صفحات الصحف بقضايا حقوقية وإثارة واسعة النطاق إنّ من حق هؤلاء المواطنين التمتع بحق السكنى!
إن كان هنالك من إهمال فى بعض الجوانب، فهو ليس إهمال السلطة الحاكمة وحدها، هناك الآلاف ممن يتحمّلون المسئولية جراء تشييدهم لمنازلهم -دون تصديق من السلطة المرخصة- فى مجاري السيول، وكلنا يعلم أن هذا الأمر ظل يتكرر فى حالات مشابهة عديدة، فما أن ينجلي الخريف ويعود كل شيء الى طبيعته حتى يسارع المواطنين لتشييد مساكنهم فى ذات المكان.
إن على المعارضة السودانية أن تستثمر -إن أرادت الاستثمار- فى قضايا وطنية جادة عميقة، لا أن تستثمر فى الأمطار!