الاثنين، 1 يوليو 2013

ورطة مجلس الأمن بشأن قطاع الشمال!

من المؤكد أن مجلس الأمن حائر الآن فيما إذا كان من الملائم تجديد دعوته الى الحكومة السودانية وما يسمى بقطاع الشمال للجلوس من جديد للتفاوض أم أن عليه (أن يدع العاصفة تمر)؟
ربما تحرص رايس المنتقلة فى يوليو المقبل الى البيت الأبيض قرب الرئيس أوباما مستشارة للأمن القومي على أن تحمل معها -ضمن أوراقها فى نيويورك- الملف الخاص بالمفاوضات مع قطاع الشمال لتصبغه -مثل ما تحرص على صبغة شعرها- بصبغة رئاسية وتعطيه أولوية فى جدول أعمالها المنتظرة، وربما يدخل الملف في متاهة التناقض المكتوم والغيرة النسائية اللافحة بين السيدة رايس والجديدة التى ستخلفها فى المقعد الأممي فى نيويورك.
غير أن من المهم بالنسبة لنا أن ملف التفاوض لم يعد بالإمكان الحديث عنه بذات النبرة السابقة التى كانت تجيدها رايس فمن جهة أولى، وقبل أن يحث مجلس الأمن الخرطوم للتفاوض مع القطاع عليه أن يقرر إدانة ما اقترفه القطاع (تحت غطاء الجبهة الثورية) من جرائم وفظائع فى أبو كرشولا بجنوب كردفان .
لن يستطيع مجلس الأمن أن يتجاوز هذه النقطة الحرجة بسهولة، فسوف تطالب الخرطوم بإدانة ما جرى إدانة صريحة، وإن لم يفعل مجلس الأمن -وهذا هو مأزقه- فإن الخرطوم بالمقابل لن تستجيب لقرار بهذه الدرجة من الازدواجية السافرة يكيل بمكيالين فى أمر، ويتخير مكيالاً آخر لذات الأمر!
ومن جهة ثانية فإن مجلس الأمن ما تبنّى عملية التفاوض وحشرها حشراً فى صلب القرار 2046 إلا لكي يساوم بها الخرطوم على قضايا خاصة بدولة جنوب السودان وقد بادرت الخرطوم بوضع دولة الجنوب فى زاوية ضيقة حرجة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقصبتها الهوائية، بحيث تحولت الأنظار الآن الى محاولة (عتق رقبة جوبا) من القبضة السودانية بعد أن (بانت عروقها) واحمرّت عيناها وباتت قاب قوسين أو أدنى من الموت المحقق!
ولو تغاضت واشنطن عن قضية النفط الجنوبي فإن عليها أن تستعد لسداد ملايين الدولارات لتغطية عجز الموازنة الجنوبية، وبالمقابل ما من شيء يضمن لها نجاح القطاع أو الثورية فى تحقيق نصر سريع على الخرطوم لا على المدى القريب ولا على المدى البعيد. فقد رتبت الخرطوم كل أوراقها لخوض معركة فاصلة حددت زواياها ومساحتها بدقة، فهي عازمة على وضع حد لكل منغصات أمنها القومي مهما كان الثمن.
وبالطبع فى مثل هذه الحالات فإن الأطراف جميعها تبحث عن (مهدئات) ودواء ناجع فى ذات الوقت وهي مهمة شاقة.
ومن جهة ثالثة فإن مجلس الأمن سيسأل نفسه عن جدوى إجراء مفاوضات بين الخرطوم وقطاع الشمال وقد فقد القطاع عملياً أدنى تأييد له داخلياً. فالأمر هنا يختلف كليةً عن الحركة الشعبية فى السابق (نيفاشا 2005) ففي حالة الحركة الشعبية كان هناك احتمال لتقرير مصير وقيام دولة جنوبية.
الآن ما من مجال لمجرد الحديث عن تقرير مصير على الإطلاق! إذ ما الفائدة المرتجاة من مفاوضات أقصى ما تفضي إليه هو أن يتوقف القتال ويعود القطاع كلاعب سياسي فى الساحة (فى حدود مهاراته الفردية) وفى غياب أيّ سند جماهيري، وفى خضم أطياف سياسية عديدة ؟ مجلس الأمن هو الآن نفسه فى ورطة!

أسوأ ما فى مقترحات أمبيكي بالنسبة لجوبا!

حظها العاثر -وبعد أن عبثت بكل شيء طويلاً- قادها الآن الى مساحة ضيقة للمناورة، وفسحة زمنية أضيق للإلتفاف على النصوص. فالحكومة الجنوبية الآن أمام خيارين لا مجال للإفلات منهما: قبول مقترحات أمبيكي باعتبارها الطريقة الوحيدة المتاحة للحيلولة دون تجميد نفطها ومن ثم تجمُّد دماؤها فى عروقها بكل ما تحويه هذه المقترحات من سنان حادة لا تمنح فرصة للتلاعب والمراوغة؛ أو رفضها ومن ثم تطاول أمد الحلول الممكنة وانقضاء فترةالـ60 يوماً لتتحول الدولة الوليدة الى خرقة اقتصادية بالية!
كثرة تلاعب جوبا بالمواثيق والعهود أوصلتها الى هذه الحالة المؤسفة من الخيارات الصعبة. ولعل الأكثر سوءاً أن ملف اجتراح الحلول ما يزال فى البيت الإفريقي إذ لم يعد لمجلس الأمن -كما كانت تشتهي جوبا- دوراً في هذه المرحلة ومن البديهي أن مجلس الأمن وحتى حين يحين أوان تدخله لا يملك قوة إلزام السودان بتمرير النفط الجنوبي.
يستطيع -مجلس الأمن- فقط أن يهدد وأن يتوعد أو يحث الخرطوم وجوبا على الجلوس للتفاوض، وهذا الأمر لم يعد مجدياً فجوبا لا يتملك إرادة ولا قدرة لتحمل التزاماتها.
مقترح أمبيكي يضعف كل موقف جوبا -طولاً وعرضاً- فهي لن تتمكن من تمرير الدعم للمتمردين مهما برعت فى ذلك فهناك توقيتات زمنية وهناك (إمكانية إعادة إغلاق الأنبوب) إذ أن شرط الإغلاق من شروط السودان الرئيسية التى لا تقبل المساومة وهناك أيضاً (مراقبة لصيقة على الأرض). هذا الوضع سيجعل جوبا (يدها مغلولة على عنقها) على الأقل لعامين قادمين هي الفترة التى تستغرقها عملية إنشاء خط بديل بحسب ما بدأت تخطط له جوبا وبالطبع تعتبر فترة العامين – فى الحسابات السياسية – فترة مهولة للغاية تجري فيها مليارات المكعبات من المياه تحت الجسر.
ومن جهة ثانية فإن جوبا باتت تواجه الآن تساؤلات داخلية من الصعب التغاضي عنها إذ ما هي مصلحتها كدولة – وليس كحكومة – فى دعم متمردين سودانيين على حساب اقتصاد الدولة واستقرار شعبها؟
هذا السؤال المخيف بات يسيطر على ذهنية الرئيس الجنوبي بعنف إذ من المؤكد انه سؤال لا يملك له الرئيس كير إجابة وإذا ما قرأنا ذلك مع قرب الاستحقاق الانتخابي وشعور الرئيس كير بمنافس خطير مثل الدكتور مشار و (آخرين) لم يظهروا فى الساحة بعد؛ فإن الرئيس الجنوبي سيفعل المستحيل للرضوخ أخيراً الى ما لامناص من الرضوخ له.
قد يراهن الرئيس كير على واشنطن أو تل أبيب ولكن هاتين الدولتين تكونت لديهما قناعة سياسية راسخة بأن من الصعب إن لم يكن من المستحيل إسقاط الحكومة المركزية فى الخرطوم، أو أن إضعافها نفسه على أقل تقدير سوف يفتح باباً للفوضى الأمنية تتأذى منه جوبا نفسها.
ولهذا فإن بعض تصريحات المسئولين الأمريكيين -من حين لآخر- حول عدم رغبة بلادهم فى الإطاحة بالحكومة السودانية فيه شيء من الواقعية حتى ولو لم تبلغ درجة المصداقية الكاملة! إذ أن ضعف المركز على حساب الهامش يجعل السيطرة على المنطقة كلها صعباً للغاية وواشنطن فى نهاية المطاف حريصة على السيطرة على منابع النفط وإسرائيل حريصة على منابع المياه وإذا ما اختلطت المياه بالدماء أو تفجرت أنابيب النفط فإن مصالحهما تكون قد انقضت تماماً.
ربما يقول البعض إن مقترحات أمبيكي فى النهاية (بتشاور) مع واشنطن، أو أن الرجل -بحكم الخبرة- بات على علم بما يفتح الباب للحل ولكن على أية حال هي مقترحات وإن أنقذت جوبا إلا أنها أخذت منها عنوة أوراقها السياسية التى ظلت تحتفظ بها وتلاعب بها السودان

السبت، 29 يونيو 2013

موضع الألم في جسد المعارضة السودانية المنهك!

دائماً تتألم قوى تحالف المعارضة من مواقف حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي. والغريب والأكثر مدعاة للدهشة أنها لا تحسن المحافظة عليه ضمن تحالفها ولا تطيق بالمقابل ابتعاده شبراً عنها.
وبالتأكيد فإن واحدة من أبرز استخلاصات هذا الوضع أن تحالف المعارضة مخصوماً منه حزب الأمة لا يساوي شيئاً، ففي طيات ذلك تكمن أسباب الدموع التى تذرفها قوى التحالف كلما تحسست صفوفها المتداعية ووجدت الأمة (خارج الصف)!
وقد كان خير من عبّر عن هذه الحقيقة المتحدث بإسم تحالف المعارضة كمال عمر، فالأخير وبعد أن أبدى زعيم حزب الأمة الصادق للمهدي تبرؤه من برنامج الـ100يوم، سارع (وهو يلهث) ليؤكد أن الأمة القومي شارك فى وضع الخطة!
غرابة الأمر هنا تكمن فى أمرين: الأمر الأول أن كمال عمر هنا بدا حاله كحال المتهم الذى (يعترف) على متهم آخر، مع أنه (رجل قانون) وله خبرة لا بأس بها فى مجال المحاماة فإنه لم ينتبه الى أن الاعتراف يلزم المعترف وحده ولا يتعداه لآخرين وأن الشهادة التي يدلي بها الشريك لا تؤخذ كدليل إثبات فى مواجهة شريك آخر.
الأمر الثاني أن مشاركة الأمة القومي فى وضع الخطة من عدمها؛ ما الفائدة المرجوة منها إذا كانت الخطة (التى كُشفت) غير قابلة عملياً للتنفيذ؟ فكأنّي بالأستاذ كمال عمر يريد إعادة قصة الثعلب الشهيرة التى تتلخص فى قيام الثعلب دخول حقل بطيخ ثم تفاجؤه بحضور صاحب الحقل فلما جرى وحاول اجتياز السور انقطع ذيله فأصبح محل ضحك وسخرية من بقية الثعالب! ولكي يضع حداً لهذه السخرية وجه دعوة للثعالب الآخرين لزيارة ذات الحقل ثم صاح فيهم -أثناء تمتعهم بتناول البطيخ- بأن صاحب الحقل قد حضر؛ فحدث لهم ما حدث له وتساوى الجميع!
من المؤكد أن الأمة القومي كجزء من التحالف يتفق فى أمور ويختلف فى أمور معهم، ومشكلة قادة التحالف أنهم يضعون الأمة القومي (فى ميزان واحد) مع بقية مكونات التحالف فى كل شيء! ومشكلة الأمة أنه يرى انه (حزب عريق) اضطرته الظروف فقط للجلوس مع (مشرديّ) السوق السياسي وهو لا يشبههم ولا هم يشبهونه! وسواء كان الأمة يجيد اللعب والمراوغة السياسية -هنا وهناك- أو أنه يلعب لصالح ورقه، فإن المثير للانتباه حقاً أن قوى التحالف مشغولة فقط بأين يجلس الأمة؟
الأمر الآخر إن قوى التحالف مضت فى تحالفاتها مع المتمردين وتجاوزت خطوطاً عديدة (أكثر من حمراء) سعياً منها للنيل من خصمها اللدود، الوطني، ومن الطبيعي أن حزب الأمة – ومهما كان رأينا فيه – يفرِّق بين (الخيط الأبيض من الأسود) أفضل من غيره! وهي نقطة ما تزال غائبة على كمال عمر وبقية العقد الفريد.
أمر آخر أكثر مدعاة لدهشة وهو أن التحالف لا يدري -ولن يدري بالطبع- كيف تسربت خطته المئوية من (خزانته السياسية الخاصة) الى الأرجاء الفسيحة الواسعة فى السوق السياسي! وبدلاً من البحث والتمحيص حول هذا الأمر جعل قضيته كلها فى محاولة إثبات مشاركة المهدي فى وضعها وكأنّ الأمة القومي هو موضوع التحالف!
ربما نسي كمال عمر -وما أكثر ما ينسى الشاب المتوثب- أن حزبه الشعبي وبقية أحزاب التحالف سبق لها أن (تبرأت) من وثيقة الفجر الجديد حينما حانت (ساعة الحقيقة) فما الذي يجعل تبرؤها ذاك مشروعاً وتبرؤ المهدي غير مشروع؟

الخميس، 27 يونيو 2013

لماذا قبلت الخرطوم مقترحات أمبيكي؟

حين أعلنت الخرطوم –الأحد الماضي– قبولها مقترحات رئيس الآلية الأفريقية الرفيعة ثامبو أمبيكي لمعالجة الوضع المأزوم بين جوبا والخرطوم جراء وقف الأخيرة ضخ النفط الجنوبي عبر أنابيبها بالطبع كان للخرطوم حساباتها وتقديراتها، فالملعب السياسي لم يكن مهيأ للخرطوم ومواتياً لتحقيق أهداف فى الشباك الجنوبية كما هو الآن وهي النقطة التى ظلت غائبة طوال الفترة الماضية عن (اللاعبين الجنوبيين) بل وحتى (المدرب الأجنبي) وبعض (المحترفين) هناك!
أولى تقديرات الخرطوم أنها تبدي مرونة سياسية فى قبول الحلول. فقرار وقف ضخ النفط لم يكن عملاً انفعالياً لحظياً لتهييج الوضع؛ والخرطوم صبرت كثيراً جداً لجوبا طوال الـ15 شهراً أغلقت فيه الأخيرة محابس الضخ لمجرد خلاف فى سعر التصدير.
واحتملت بالإضافة الى ذلك غائلة الدعم الجنوبي المتواصل للمتمردين، ولهذا حين اتخذت قرارها بوقف الضخ لم تصم أذنيها بقدر ما أرادت أن تستمع وترى وتشاهد حتى تختار أفضل ما يضمن لها إلتزام جوبا بما يفترض أن تلتزم به فعلا لا قولاً.
مقترحات أمبيكي تفتح باباً للبحث عن ضمانات جادة وتتيح فى الوقت نفسه تحويل الأنظار الى جوبا لينظر العالم كيف ستتصرف حيال إلتزاماتها.
ومن الناحية الثانية فإن الخرطوم فيما يبدو حرصت على إيجاد (مخارج طوارئ) لجوبا، فهي حريصة على علاقات الشعبين ولا تود أن تفقد أواصر العلاقة بين شعبين كانا شعباً واحداً قبل أشهر قليلة. وسوف تشعر جوبا بحجم الضغط الشعبي عليها وأن الأوان قد حان للإلتفات الى رغبة شعبها.
لن يكون من أمنيات وتطلعات الشعب الجنوبي أن يروا حكومتهم تزعزع استقرار الأرض التى يمشي فيها نفطها وترى الملايين من الدولار ت تتحول الى سائل متجمد فى الأنابيب، لا هو تحول الى أموال تفيده وتطعمه ولا هو بقي فى آباره الى حين ميسرة!
من ناحية ثالثة فإن الخرطوم بقبولها لمقترحات أمبيكي بأن تضع يدها على رأس الخيط فالمقترحات تضمنت استحداث آليات مراقبة وتحديد خطوط على الأرض وغيرها من الأمور الموقوتة بمدة محددة لا تتجاوز منتصف يوليو المقبل.
الأمر هنا بالنسبة لجوبا يخلق لها ارتباكاً فهو شبيه بأحكام (حسن السير والسلوك) التى عادة ما تصدرها المحاكم حيال متهم يُرجى صلاحه! فالقاضي يحدد فترة زمنية للمدان ليظهر فيها حسن سيره وسلوكه وإذا ما ظهر عليه غير ذلك –فى الفترة المحددة– تتحول فترة الاختبار المقررة الى عقوبة!
ربما رأت الخرطوم أن (اختبار جوبا) بآليات مراقبة وتحت بصر العالم لفترة زمنية محددة يحقق أحد أمرين: إما أن تكف جوبا وتقلع نهائياً عن الدعم، وهذا هو المطلب الاستراتيجي الحيوي للخرطوم؛ وإما أن تنكشف سوءة جوبا وتخفق فى الاختبار ومن ثم تكون الخرطوم على حق ليتداعى العالم بعد ذلك باحثاً عن الحل لدى جوبا وحدها!
من جانب آخر فإن جوبا أدركت وربما لأول مرة أنها ومنذ أن استخدمت سلاح البترول كسلاح فى نزاعها مع الخرطوم بدأ ذات السلاح يصيبها منه مقذوف إرتدادي كما يقول خبراء السلاح، فقد كان خطأ استراتيجي قاتل ذلك الذي دفعها لإدخال (عنصر الطعام الوحيد لها) فى ميدان النزاع وجعله سلاحاً ضمن سائر الأسلحة.
وهذا فى الواقع ما يجعلها أسيرة لسلاحها ومن ثم فسوف تبذل قصارى جهدها لإخراج هذا السلاح من المعركة، والطريقة الوحيدة المتاحة لها في هذا الصدد هو أن تقرر –بإرادة نافذة– أن تدع السودان وشأنه وأن تكف يدها عن شئونه الداخلية وربما كانت هذه هي المرة الأولى فى تاريخ النزاعات الدولية التى تضطر فيها دولة (للندم) على استخدام سلاح لم تكن تعلم أنه يعمل باتجاهين، باتجاه الخصم وباتجاهها فى ذات الوقت!

الثلاثاء، 25 يونيو 2013

لصوص VIP !

على الرغم من أن قضية (سرقة أموال) من مكتب الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت لأكثر من مرة، قضية يمكن اعتبارها (جنائية داخلية) تخص الحكومة الجنوبية التى تعج بالذين يجيدون هذه اللعبة منذ (قضية الـ60 مليون دولار) الشهيرة والتي سُرقت فى بداية الفترة الانتقالية؛ إلا أن هنالك ظلال سياسية ممتدة لمثل هذه القضايا (المخجلة).
بعض هذه الظلال ظلت تمتد الى السودان، بل لا نبالغ إن قلنا إن (سرقات كبار المسئولين فى جوبا) ظلت وعلى مدى سنوات مصدر إيذاء للسودان، ولكي نفصِّل الأمر نضعه فى عدة نقاط.
أنباء سرقة 7 مليون دولار من مكتب الرئيس كير مؤخراً اضطرت الرئيس الجنوبي لإيقاف رجلين من كبار المسئولين الجنوبيين يُصنّفون عادة ضمن خانة (الصقور)، أولهما دينق ألور وثانيهما كوستا مانيبي.
إن مجرد إيقاف مسئولين كبار (بتهمة شائنة) كهذه وهي السرقة، أي (السطو) على الخزينة الرئاسية، عبر التسلل خلسة، أو باستخدام (أدوات) غير معتادة أو (مفتاح) جرت طباعة نسخة منه أو (بنفس المفتاح) ولكن فى غيبة الرئيس (ومن ورائه)، مجرد الإيقاف يعني وجود (أدلة مبدئية) تستوجب التحقيق، فالإيقاف فى حد ذاته مهم جداً وإن كان مجرد عمل روتيني وصيغة إدارية، إلا أنه جزء وعنصر مهم جداً من عناصر التهمة، وليس مهماً هنا بعد ذلك أن تثبت التهمة قضائياً أم لا، المهم أن (التهمة) حامت حول الرجلين والتُهم لا تحوم جزافاً.
هذه النقطة لها ظلالها (السياسية) على السودان، إذ أن السيد دينق ألور واحد من غلاة وعتاة المتشددين ضد السودان، خاصة فى قضية أبيي، وللرجل وبقية رفاقه ما يمكن أن نصفها بضغينة سياسية خاصة جدا تجاه السودان.
فإذا كان رجل كهذا فى موقع (وزير الرئاسة) أو ما يُعرف فى علم النظم السياسية الوزير الأول يقع ضحية إتهام شائن كهذا، فإن من المؤكد أن الرجل (سرق الكثير والكثير جداً من قرارات الرئيس كير فى شئون متعلقة بالسودان)! ليس هنالك من يسرق مالاً ولا يسرق (أشياء أخرى مهمة).
وليس بمستبعد أن يكون ألور أحد سارقي قرارات الرئيس كير بشأن وقف دعم المتمردين السودانيين، ومعالجة كافة النزاعات ما بين البلدين. ليس من المستبعد أن يكون ألور عرقل أيّ تقارب مع السودان بما في ذلك إعادة ضخ النفط طالما أن قضية أبيي لم تُحل بعد؛ وهو حل يريد ألور ورفيقيّه، لوكا بيونق وإدوارد لينو، أن يكون لصالحهم!
النقطة الثانية أن السرقة ربما تكون (بدافع شريف)، رغم طرافة التعبير! فلربما أراد السارقون –وهم فعلوها للمرة الثانية– أن يجعلوا مكتب كير (موضعاً للشبهات) وأن يجعلوا الرئيس كير يشك فى كل شيء، ويفقد الثقة في مساعديه والمقربين منه وهذا سيناريو يخدم (أصحاب أبيي) بحيث يجعلهم أكثر تأثيراً أو يقود الى فقدان الرئيس كير لأعصابه ومن ثم تتحدد الاتجاهات والبدائل! ومن المؤكد أن السودان مقصود من بين طيات هذا السيناريو لأن البدائل -فى تفكير ألور ورفاقه- هي انتزاع أبيي بالقوة!
النقطة الثالثة إن سرقة الأموال -فى حد ذاتها- مقصودة لدعم بعض المتمردين هنا وهناك ضد الرئيس كير نفسه وجعله يشك فى من حوله ومن ثم يبدأ باتخاذ قرارات إحالة للمعاش ويقع فى تخبُطات يستفيد منها ألور ورفاقه، فالسياسة فى الذهن الإفريقي –وعلى وجه التحديد فى دولة جنوب السودان– هي أن البقاء (لصاحب المال)، وأن بالمال يمكنك شراء (من تريد) و (ما تريد) فى أي وقت . هؤلاء المتهمين يريدون شراء أبيي (بدون ثمن)، والسرقة في الأعراف والثقافات المحلية هناك (ليست جريمة)!

طه مشار هل من خيار؟

أياً كانت نتائج ومآلات لقاء نواب الرؤساء -مشار وطه- على خلفية النزاع  الناشب بين الدولتين، فإن فكرة إرسال جوبا لنائب الرئيس الى الخرطوم على أية حال لم تكن سديدة (Not good idea). ربما كان لجوبا حساباتها ولكن مهما كانت تلك الحسابات فإن الخرطوم -حتى وهي فى مرحلة التفكير لم تكن موفقة- حتى ولو تم اللقاء وأسفر عن ما أسفر عنه وذلك لعدة اعتبارات.
أولها أن مجمل الاتفاقات الموقعة بين البلدين وفى مقدمتها -والأبرز على الإطلاق- اتفاقية التعاون المشترك والمصفوفة الخارجة من رحمها؛ وهي نتاج جهد رئاسي على مستوى القمة بين رئيسيّ البلدين، ولا توجد فى العلاقات الدولية سلطة أخرى أقل أو أعلى يمكن أن تعيد نقاش ما تم بين الرئيسين.
الأمر هنا بدا وكأنّه رجوع الى الوراء وبداية جديدة، فلو كانت الدبلوماسية الرئاسية والجهد الجبار الذى بذله الرئيسان لم يجد الاحترام المطلوب من جوبا فما عسى يجدي لقاء النائبين؟ جوبا هنا إما أنها تستهين بالأمر، أو أنها غير مدركة لطبيعة الملف وخطورته.
الاعتبار الثاني أن القضية ليست فى الاتفاق والتوافق، ولا حتى فى النصوص وآليات التحقق وغيرها من الآليات؛ القضية ترتبط بسؤال محوري وجوهري يخص جوبا: هل هي تملك الإرادة السياسية الكافية المنفردة على الالتزام بالاتفاقات أم لا؟ الحوادث أثبتت بجلاء أن جوبا تفتقر للإثنين معاً؛ المقدرة والإرادة السياسية بصرف النظر عن الأسباب والمبررات ومن ثم فسواء تم الاتفاق أو أُستجلبت آليات من عدمه فإن العلة تُلحظ هناك على الجانب الجنوبي.
الاعتبار الثالث كان بوسع جوبا –طالما أدركت خطورة القرار السوداني– أن تقدم على الفور على الأفعال، لا أقوال، فقبل حضور مشار أو أيّ لقاء بين الطرفين كان بوسعها -إن لم يكن الأمر فيه ما فيه- أن تتخذ خطوات عملية بطرد الحركات المسلحة وإغلاق معسكراتها.
في الغالب فإن الطرف الذى يهمّه أن يتجاوز معضلة ما، يتخذ خطوات ايجابية ملموسة تقطع كل شك عن تماديه فيما يفعل وتتيح قدراً من الثقة لدى الطرف الآخر تجعله يصبح على إستعداد للحوار. كان على جوبا أن تعمل على تصحيح الوضع عملياً قبل أن تأتي لتطلب، فهي طرف مطلوب والطرف المطلوب عليه أن يعطي قبل أن يفكر فى أية مساومة.
الاعتبار الرابع أن نائب الرئيس الجنوبي ومهما كانت قدراته ودبلوماسيته فهو يعيش صراعاً ما مع رئيسه، وما بين الاثنين وعلى قدر ما ظهر على السطح الآن لا يوحي بأنهما على ما يُرام وهذا يجعل من مهمة مشار مهمة شاقة مُترصَدٌ لها فى جوبا فإن هو نجح فى إحداث اختراق، عرقله رئيسه بدافع الخصومة السياسية؛ وإن هو أخفق سقط فى الامتحان!
فى مثل هذه الظروف والمعطيات، تصبح أية محادثات معروفة النهايات وغير مجدية مهما بدت جادة ومثمرة، فالعبرة بالنجاح ومقداره مرتبط إرتباطاً كاملاً بموقف الرئيس فى جوبا.
وهكذا، فإن مجرد حديث جوبا عن إبتعاث نائب الرئيس الجنوبي لمناقشة الأمر فى الخرطوم كان فى حد ذاته إمعاناً في تأجيج الموقف وتعقيده أدركت ذلك جوبا أو لم تدركه. وبالطبع لن يكون عصياً على الخرطوم أن تفهم الخطوة فهمها الصحيح، ولكن فى العادة فإن الخرطوم حين اتخذت قرارها بقفل أنابيب الصادر النفطي فتحت من الجانب الآخر أية أبواب ونوافذ يمكن أن يدخل منها (الهواء النقيّ) الى الغرفة، ففي السياسة لا توجد طرق مغلقة، هناك دائماً طرق جانبية للطوارئ، ولكن هذا يتوقف على طبيعة هذا الهواء وقدرته على (تكييف) المناخ العام فى المنطقة بالقدر الكافي!

هل هو قرار استراتيجي أم تكتيكي؟

يخطئ بعض المراقبين فى تحليلهم للطريقة التى تتعامل بها جوبا مع الخرطوم وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بدعم المتمردين حين يوردون تبريرات أو ذرائع بعضها يشير الى وجود (متفلتين) فى كابينة القيادة الجنوبية وأنّ الرئيس الجنوبي غير قادر على السيطرة عليهم، وبعضها يشير الى أن الدعم ليس جنوبياً محضاً وإنما هو (دعم خارجي) ليست جوبا سوى (محطة نقل وسطى) فيه!
الأمر هنا لا يتعلق بهذا الجانب فهذا فى خاتمة المطاف يصنف بأنه شأن (داخلي) يخص الحكومة الجنوبية طالما أنها هي التى تجلس على عجلة القيادة وتدير الأمور حتى ولو كانت هذه السيطرة والإدارة ظاهرية. الأمر يتعلق باستحالة ارتضاء دولة بالمساس بسيادتها الوطنية وإيذاء أمنها القومي وتشكيل عنصر إقلاق دائم لها.
ومن المهم النظر الى هذا البعد الاستراتيجي البالغ الأهمية فى هذا الصدد، إذ أن قرار وقف ضخ النفط ليس سوى (قطرة) فى بحر من القرارات التى تعتزم الحكومة السودانية اتخاذها تباعاً كلما تمادت جوبا فى ارتكاب الأخطاء تجاه السودان. ومن المؤكد أن السودان يود أن يضع القادة الجنوبيين فى موضع الاختيار ما بين أكل الكيكة أو الاحتفاظ بها، لأن الخيارين لا يجتمعان لأحد قط، مهما دعم ظهره الداعمون وسانده المساندون من العصبة الدولي أولي القوة!
فالمصالح الجنوبية الحيوية لدى السودان مهولة تبدأ من(إبرة المخيط) و(الخيط نفسه) مروراً بالغذاء بكافة أنواعه، والأدوية بكافة أنواها، وكل الاحتياجات الحياتية اليومية التى من المستحيل على جوبا الحصول عليها من منافذ أخرى فالدولة الجنوبية دولة مغلقة لا منافذ لها، وحدودها مع السودان بمثابة الشريان الرئيسي  فى حياتها، وكان الاعتقاد أن القادة الجنوبيين ومهما بلغ بهم الشطط والغل لن يعبثوا بمصالحهم الإستراتيجية فى السودان.
من الأبعاد الإستراتيجية الأخرى للقرار السوداني محاولة إيقاظ بعض القوى المعارضة (الحالمة) بأن بوسعها إذا وصلت الى السلطة عن أي طريق فإن الليالي سوف تصفو بعد كدرتها وكل شي إذا ما تم ينقلب.
حاولت الحكومة السودانية بهذا القرار إيقاظ (الضمير الوطني) -إن وجد- فى قوى المعارضة السودانية لكي تدرك أن الأمر لا يتعلق بخلافات حكومات بين بلدين؛ هنالك بعد دولي فى الأمر وبالغ الخطورة ولعل المؤسف والمؤلم فى هذا الصدد أن قوى المعارضة ما تزال تجري حساباتها مراهنة على إسقاط النظام وقد طرق العدو الأكبر الأبواب!
ولعل من المهم أن نلاحظ هنا بشيء من التمعن العميق أن جوبا تتلاعب بقوى المعارضة السودانية بطريقة سمجة وفجة إذ كيف يمكن لعاقل وسياسي يتمتع بأدنى قدر من الذكاء أن يصدق أن ما تقوم به جوبا من دعم للمتمردين يصب فى صالح السودان؟
كيف يمكن لأذكياء وعباقرة القوى المعارضة أن يثقوا في أن الحلو وعقار وعرمان ليسوا سوى (ملائكة رحمة) يعملون ليل نهار ويخوضون الحروب ويتعرضون للنار مباشرة لخاطر ولصالح القوى السياسية المنتظرة بلهفة نصيبها من السلطة التى تعتقد أنها سوف تأتيها على طبق مصقول من ذهب؟
من الأبعاد الإستراتيجية الأخرى للموقف السوداني أن يعمل السودان على بناء اقتصاده الذاتي الخاص بعيداً عن (أجرة النقل) هذه التى جعلت منها جوبا وسيلتها المثلى للضغط على السودان ومحاولة إسقاطه اقتصادياً ثم الإجهاز عليه عن طريق المتمردين.
سعي السودان (للفكاك) من أجرة نقل النفط الجنوبي وتوفير بدائل أخرى هو عمل استراتيجي يتيح له أن يمضي فى نهضته بعيداً عن أدوات الضغط، وهذه من النقاط التى تسبب ألماً مبرحاً سواء لجوبا أو إسرائيل أو الولايات المتحدة فهي التى تخطط فى الخفاء لمثل هذه الخطط!