الأربعاء، 28 أغسطس 2013

كل قوات حفظ السلام فى السودان جزء من الأزمة وليست جزء من الحل!

لو كانت لقوات حفظ السلام الدولية المنتشرة فى أرجاء من السودان سواء فى دارفور (اليوناميد) أو فى أبيي المتنازع عليها بين الخرطوم وجوبا (يونسيفا) من إيجابية واحدة، فهي أنها (جزء من الأزمة) وليست جزء من الحل. فقد أشار تقرير صادر عن لجنة التحقيق الوطنية الخاصة بالتحقيق فى أحداث أبيي التى لقي فيها ناظر دينكا نقوك كوال دينق مصرعه الى أن المتورط فى العملية هي قوات حفظ السلام نفسها (اليونسيفا).
فقد قال التقرير بوضوح ملخِّصاً الحادث في عبارة مفتاحية جامعة (إن جميع القتلى والجرحى فى الحادثة أصيبوا برصاص القوات الإثيوبية) وأضاف التقرير إن اليونسيفا استخدمت أنواعاً مختلفة من الأسلحة بغية السيطرة على الأوضاع، الشيء الذي اسقط حوالي 17 قتيلاً من المسيرية.
وعلى ذلك فإن التقرير بهذه المثابة قفل الباب مبدئياً عن أي تكهنات أخرى قد تثير الشكوك حول الجاني الحقيقي وراء الحادثة. ولهذا فإن السؤال المشروع هنا ليس فقط كيف توصلت اللجنة الوطنية الى هذه النتيجة وطبيعة الأدلة التى اعتمدت عليها، ولكن السؤال يمتد لأكثر من ذلك الى كيفية معالجة الموقف حتى لا يتكرر مستقبلاً؟
الواقع إن تقرير اللجنة الوطنية لم يفصح كثيراً – ربما لاعتبارات خاصة – عن الأدلة التى بنت عليها نتائجها، ولكن من السهل -بقراءة التقرير- وبشيء من التقصي معرفة ذلك. أولاً، استجوبت اللجنة فيما يبدو عدداً من شهود الحادثة سواء من القوات الإثيوبية أو غيرهم وهذه نقطة جوهرية ومهمة فمسرح الحادثة هو نفسه ناطق بما حدث ولعل هذه الفرضية ملاحظة بوضوح من سياق الحقائق التى وردت فى التقرير فهى تشي بأنها نتاج شهادات أخذت.
الأمر الثاني أن مسرح الحادثة نفسه يمكن أن يعاد رسمه بحيث تعاد المشاهد من بدايتها ويعاد وضع الصورة بكاملها فيه، وهذا يعطي تفسيراً منطقياً للتسلسل الطبيعي للأحداث، فمكان وقوف السلطان القتيل ومكان وقوف المسيرية والقوات الإثيوبية يحدد ما حدث.
الأمر الثالث أن الرصاص الفارغ هو الآخر أكبر مؤشر على طبيعة السلاح الذى أطلق وعياره ونوعيته ومع من يوجد؛ إذ مما لا شك فيه أن السلاح الموجود لدى المسيرية يختلف تماماً -نوعاً وعياراً- عن طبيعة السلاح الذي تتسلح به القوات الإثيوبية إذ مما هو متعارف عليه دولياً أن القوات المكلفة بحفظ السلام عادة يتم منحها أسلحة بنوعيات محددة وبعيارات محددة يندر تطابقها مع قوات أخرى والنادر لا حكم له.
الأمر الرابع من المؤكد أن لجنة التحقيق اطلعت على ورقة التشريح الخاصة بالقتلى من المسيرية والسلطان كوال وورقة التشريح هي الأخرى تحدد طبيعة المقذوف الناري الذي أصيبوا به وإذا ما تم معرفة طبيعة المقذوف الموجود لدى الإثيوبيين فإن هذا يقطع بنتيجة التحقيق.
وعلى ذلك فإن الأهم من ذلك هو كيفية معالجة الموقف، فالقوات المكلفة بحفظ السلام فى السودان أصبحت فى الواقع عبء أمني بأكثر مما هي وسيلة لحل مشكلة، فاليوناميد فى دارفور ظلت تعرِّض نفسها لهجمات وظلت تحرز فشلاً تلو الآخر فى حماية نفسها على الأقل دعك من حماية المدنيين، مهمتها الأصلية التى جاءت من أجلها.
أما اليونسيفا فهي (بالغت) فى حماية نفسها بدلاً من حفظ الأمن فى المنطقة إذ أن إطلاق النار بكثافة وبدون اكتراث دافعه الأساسي فى الغالب حماية القوات بأكثر مما هو عملية حفظ سلام.

تحالف المعارضة.. (100 يوم) كزمن رسمي زائداً الزمن الإضافي!

مُنِحت قوى المعارضة السودانية زمناً اضافياً على الزمن الذى حددته بـ100 يوم لإسقاط النظام ويكاد الزمن الإضافي نفسه ينقضي ولم نشهد ندوة محضورة أو مسيرة مشهودة أو عملاً بطولياً من أي شاكلة كان.
والراجح أن أزمة المعارضة ليست فقط أزمة توافق داخلي ورؤى وبرامج غائبة وتنافر فطري فيما بينها، ولكنها أزمة مصداقية وعجز منحت خلاله أكثر من عقدين من الزمان وليس فقط (100) يوم، ولكن كل الزمن المحدد انقضى وقوى المعارضة فى حالها إلا من (المنح) و(الهدايا) الغالية، باهظة الثمن.
وكما رأينا كيف (خجلت) المعارضة من نفسها وهي عاجزة عن إدانة ما جرى فى الشقيقة مصر من انقلاب على الديمقراطية ولم تتفوه بموقف مبدئي صادح وعالي النبرات، فإننا نعايش أيضاً كساحاً وقعوداً عن الاستعدادات للانتخابات المقبلة ولئن وصف المسئول السياسي (غير الموفق) فى حزب المؤتمر الشعبي كمال عمر التقاء الشعبي بالوطني بأنها (أحلام ظلوط) فى إشارة لاستحالتها؛ فإن ذات هذه الأحلام بوصفها هذا تنطبق على قوى التحالف فى سعيها لإسقاط النظام، ولعل الأمر المستغرب حقاً أن تحالف المعارضة يعلم علم اليقين أن الوطني ليس هو الوحيد الحاكم الآن إذ يوجد بجانبه أكثر من 14 حزباً سياسياً، ومع ذلك يكرس التحالف كل وقته لمهاجمة الوطني والسعي لإسقاطه.
فالإتحادي الأصل وعدد من الأحزاب الاتحادية وأحزاب الأمة هي الآن شريكة فى إدارة الدولة وتعمل فى تناغم تام وانسجام مع الوطني ولم يحدث قط أن اشتكى حزب من هذه الأحزاب من تهميش أو تقليص للدور أو بخس للعطاء وقد انقضت أكثر من ثلاثة سنوات حتى الآن على ذلك وما يزال العطاء مستمراً، فيا ترى لِمَ تتجاهل قوى المعارضة هذه الأحزاب التى كانت وإلى عهد قريب تجلس فى مقاعد المعارضة؟
من المؤكد أن قوى المعارضة لو كانت قوية راسخة ولديها هدف وبرنامج جاد ومؤثر لما فارقها من فارقها من الأحزاب، إذ أن حزباً مثل الاتحادي الأصل بزعامة الميرغني شديد الأهمية وثقيل الوزن تحتاجه قوى التحالف؛ فلماذا تركها وفضل المشاركة فى إدارة الدولة؟
حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي رأينا كيف شرع فى القيام بأنشطته الخاصة بعيداً عن التحالف.. لماذا لم يَرُق التحالف للأمة القومي وهو حزب له وزنه وثقله السياسي؟ الشعبي نفسه، بكل ما يمثله من خميرة عكننة فى الساحة السياسية السودانية، لماذا عاد وبدأ يقترب أو يتقرّب الى الوطني رغم أنف كمال عمر مسئوله السياسي الذى أوردهم موارد الهلاك لسنوات وما يزال؟
إن برنامج الـ100 يوم الذى تحدث عنه تحالف المعارضة فى الواقع ليس سوى برنامج الاقتراب والاقتران بالسلطة الحاكمة، هذا هو التفسير المنطقي الوحيد، فقد تفرقت السبل بالقوى المعارضة وأصبح كل حزب بما لديه فَرِح وصارت المصلحة الحزبية الخاصة لكل واحد منهم هي الأهم وهي الأعلى، وهذا أمر طبيعي فى سوق السياسة قلنا ورددنا ذلك أكثر من مرة وقلنا إن التحالف يحمل بذور فنائه بداخليه وأنه لا مستقبل له وزاد طينه بلاً تحالفه مع الثورية وأصبحت مراهناته على بندقيتها.
لقد انقضت مائة يوم ومائة أخرى والتحالف يتحالف مع الوطني، فلربما كان ذلك هو التغيير المنشود والإسقاط المرجوّ!

مع السفير الأمريكي بعيداً عن ويكيليكس!

في موعده المحدد حضر السيد جوزيف ستافورد القائم بأعمال السفارة الأمريكية بالخرطوم إلي صحيفة (السوداني) مسبوقاً بإجراءات أمنية احترازية أقل من المتوقع.
الرجل يحرص على التواصل مع دوائر التأثير في المجتمع السوداني، صحف ومنظمات مجتمع مدني وطرق صوفية، وأثارت الهدية التي تلقاها من جماعة أنصار السنة وهي عبارة عن مصحف شريف جدلاً إعلامياً واسعاً، وطالب البعض الجماعة باستعادة المصحف من السفير!
وقتها لم يكن واضحاً بالنسبة لي أن كان الاعتراض فقهياً أم سياسياً وإن كان التحفظ على شخص السفير وهويته القطرية – باعتباره مسيحياً؟
المهم في الأمر جاء الرجل إلى الصحيفة للتعارف والحوار، ألقي مجموعة من الأسئلة وجد مقابلها من الإجابات، طرحنا عليه مجموعة من التساؤلات وفر لها إجابات أقل صراحة وأكثر دبلوماسية!
سأل عن الحريات الصحفية، قلنا له في هذه الفترة أفضل نسبياً من الماضي، وأنها تتأثر بالتوترات الأمنية والعسكرية التي تواجه الحكومة، فهي تتمدد في ظروف السلم وتنكمش مع اشتداد الحرب!
طرح أسئلة سياسية وجد إجابات متعددة من زملائي في اللقاء، طرحنا عليه حزمة من التساؤلات أكثر من التي بادر بها وأغلبها أميل لانتقاد السياسة الأمريكية في المنطقة وتجاه السودان.
قلنا له: أمريكا متناقضة تحارب القاعدة في أفغانستان وتتعاطف معها في سوريا، غامضة في أجندتها تجاه السودان لا يعرف إن كانت تسعي لتغيير النظام أن لتعديل سلوكه السياسي، وهل تساند خيارات أستخدم السلاح كوسيلة للتغيير أم تقف ضدها؟!
جاءت إجاباته على ما هو معهود ومحفوظ لم يضف جديداً ولكنه كان أكثر حماساً في الدفاع حينما انتقدنا ضعف المساهمة الأمريكية في أزمة السيول والأمطار والتي لم تتجاوز الـ 50 ألف دولار.
وبان عليه قدر من الاستياء حينما قلنا له إنكم تتعاملون مع الأزمات الإنسانية في السودان على أساس التمييز الجغرافي بين المناطق؟!
نفي استفاورد ذلك وشرع في تقديم تبريرات لهزالة المساهمة، وقال إنهم لا يفرقون بين مناطق السودان لا على الأسس الجغرافية أو الدينية أو الاثنية، وعدنا بالرد التفصيلي على تساؤلاتنا في حوار صحفي خارج الزيارة!
لا أعرف لماذ يتوجس البعض من الزيارات التي يقوم بها هذا السفير، أليس من الأفضل أن يتعرف على المجتمع السوداني من خلال اللقاءات المباشرة والحوارات لا عبر التقارير الرسمية ونشرات المنظمات ومن الميديا العالمية؟!
القلق من زيارات السفير الأمريكي دليل خوف وشعور بالضعف لا يليق بأي جهة لها ثقة في نفسها أ

واشنطن وأفلام الخيال العلمي السياسي فى الجنوب!

تماماً كما يحدث في ما بات يُعرف بأفلام الخيال العلمي فإن دولة الجنوب (كصناعة أمريكية) باتت وحشاً سياسياً تصعب السيطرة عليه، ففي أفلام الخيال العلمي التى بدأت تعج بها السينما الأمريكية والتي غالباً ما تتناول سلاحاً ما أو صناعة لوحش ما بغية استخدامه فى الحروب لصالح الطرف المصنِّع؛ فإن دعم واشنطن للدولة الجنوبية الوليدة وخلقها خلقاً مثلما يجري فى معامل وكالة المخابرات المركزية (تحت الأرض) بات يشكل هاجساً لواشنطن نفسها.
ولعل فشل واشنطن الواضح الآن في التعاطي مع الشأن الجنوبي الذى بات محيراً لها مردّه إلى عدة اعتبارات مهمة؛ أولها أن واشنطن تجاهلت تماماً وهي تدفع بالجنوب للانفصال عن الشمال أن تقاطع مصالح الاثنيات والقبائل فى دولة الجنوب أشد وأعنف مما هو عليه فى ظل السودان الواسع الفسيح الذاخر بالتنوع.
تجاهلت واشنطن حقيقة أن دولة الجنوب لا تحتمل مقومات الدولة فيما يخص التجانس القبلي والبوتقة الوطنية؛ إذ ليس كافياً لإنشاء دولة وجود أرض وشعب وحكومة فهذه هي عناصر الدولة المعروفة في علوم النظم السياسية ولكن بالمقابل هنالك عناصر أخرى مهمة فى مقدمتها مقدار التجانس وإمكانية التعايش بين القبائل دون اقتتال وبطريقة لا تعيق مسيرة الدولة ولا تؤثر على أمنها.
الآن بدأت نذر الصراع بين القبائل الجنوبية من القمة، حيث دخل الرئيس الجنوبي سلفا كير فى صراع مبكر للغاية مع نائبه د. رياك مشار ثم امتد الصراع لأمين عام الحركة الشعبية باقان أموم ثم شمل تعبان دينق وألور وكل واحد من هؤلاء القادة يمثل إثنية ومن ثم كل واحد من هؤلاء لديه قوات تدين له بالولاء فى الجيش الشعبي وهذا ما يقلق وسيظل يقلق واشنطن.
الأمر الثاني أن واشنطن اعتقدت أن بإمكانها – وفى نزهة سياسية عادية – أن تدير مصالحها فى دولة الجنوب بعيداً عن أي مؤثرات أمنية أخرى فالجنوبيين سيكونون فرحين بتحقيق استقلالهم وسيغضّوا الطرف عن ما قد تفعله واشنطن فى بلادهم وهذا صحيح ولكن نسيت واشنطن أن إمكانية إدارة مصالحها هي نفسها فى حد ذاتها فى ظل حالة عدم الانسجام القبلي مهمة مستحيلة، فالحرب الأهلية المرشحة للاندلاع فى دولة الجنوب سوف تقضي على أخضر ويابس مصالح واشنطن هناك وسيشمل عنصر النفط القاسم الأعظم المشترك الأكبر فى إدارة الصراع وقد يصل الأمر الى حد تدمير المنشآت النفطية حتى ولو اضطرت واشنطن لحراستها هي شخصياً، ففي النهاية فإن النيران حين تشب فى منطقة فإنها لا تتوقف ويمكنها أن تقضي على كل شيء.
الأمر الثالث أن واشنطن هي نفسها لعبت وتلاعبت بالقضية الجنوبية مبكراً حتى قبل الانفصال حين أخرجت -بطريقة أو بأخرى- الزعيم الجنوبي الراحل د. جون قرنق من اللعبة فى حادثة تحطم طائرته المريبة فلو كان هناك قائد بإمكانه لمّ شمل الجنوبيين وإدارة قضاياه مع السودان بحنكة فهو الدكتور قرنق الذى ربما كانت تقديرات الذين أخرجوه من الملعب مبكراً أنه يمثل خطراً على مصالحهم فى المستقبل ولكن هاهو الخطر الآن يأتي إلى واشنطن من حيث لم تحتسب!

لماذا وقفت الخرطوم هذا الموقف من القاهرة؟

كان ولا يزال بوسع الحكومة السودانية اتخاذ الموقف الذى تراه وفق مصالحها وإستراتيجيتها حيال الأزمة الجارية فى الشقيقة مصر أسوة ببلدان ودول عديدة فعلت ما رأته صواباً، ولكن الخرطوم اختارت –بعناية تامة– النأي بنفسها عن الولوج فى ساحة متفجرة ولم يضر الخرطوم أن أعاب عليها البعض صمتها أو وقوفها المحايد إزاء الصراع الناشب هناك.
فيا ترى ما الذي جعل الخرطوم تلتزم هذا الموقف وهي قابضة على جمر؟ الأرجح أن الخرطوم -وفق إستراتيجية خارجية شديدة الأهمية- التزمت وبصرامة شديدة بمبدأ عدم التدخل فى الشأن الداخلي لأي دولة، ولهذا فإن من المستغرب أن يعيب عليها البعض هذا الموقف، فهو معروف فى القانون الدولي بالضرورة. وهو أحد أهم المبادئ التى تقوم عليها العلاقات الدولية، ولو حدث أن تدخلت الخرطوم فى الصراع الدائر لقامت الدنيا من حولها ولم تقعد، وعلى ذلك فإن ذات الذين انتظروا تدخلها – بالطريقة من الطرق – غضبوا لعدم تدخلها لأنها –ببساطة– فوتت عليهم استثماراً سياسياً نادراً!
الأمر الثاني أن الخرطوم نفسها عانت وما تزال تعاني من التدخلات الدولية فى شئونها الداخلية (جنوب السودان ودارفور) ثم لاحقاً (جنوب كردفان والنيل الأزرق) ومن الطبيعي أن من يعاني من داء ما أن يحول دون نقله الى آخر.
الأمر الثالث أن المصالح الإستراتيجية للسودان لا تتأثر ولا ينبغي لها أن تتأثر البتة لما سيستجد من أمور فى الشقيقة مصر وهذا الموقف من الضروري فهمه حتى على مستوى قوى المعارضة السودانية، لأن الدولة كجسم متكامل شيء، والحكومات كأجسام جزئية للدولة شيء آخر، المهم هو أن تظل العلاقات -بأبعادها الإستراتيجية- بين الدولتين ثابتة وراسخة ولهذا لم تمانع الخرطوم من استقبال وزير الخارجية المصري نبيل فهمي وكان بإمكانها أن تمانع دون إبداء أسباب كعرف دبلوماسي سائر ومعمول به، فالأوضاع فى حالة سيولة فى القاهرة وفى مثل هذه الأحوال من حق أي دولة أن تغلق بابها عليها وتجلس لتراقب الذي يجري ولكن الخرطوم استقبلت الوزير المصري بما يليق واستمعت إليه وبادلته الآراء كأمر طبيعي ومطلوب.
وعلى ذلك فإن كل من راهن من قادة المعارضة على أن الخرطوم قد تتورط فى الشأن المصري استشعر حرجاً وألماً بالغين، ففي النهاية فإن بناء علاقات متطورة مع مصر الدولة هو الذي يترسخ ويسود، ولعل هذا يلفت نظر بعض دول الجوار ومن بينها مصر نفسها -مستقبلاً- لكي تنأى بنفسها عن التدخل فى الشأن الداخلي السوداني سواء باستضافة القوى المعارضة المسلحة، أو الوقوف بجانب طرف من الأطراف التى تصارع الخرطوم جرياً على مبدأ المعاملة بالمثل، فقد بادر السودان – وهو يعرف مدى فداحة الجرح فى مصر –لالتزام جانب الحيطة والحذر أملاً فى أن تحذو الدول الأخرى القريبة منه والبعيدة ذات الشيء بشأن ما يجري فيه!

شخصيات سودانية معارِضة سادت ثم بادت!

تساقط فى خضم الساحة السياسية الفوارة الكثير من الساسة الذين بنوا عملهم السياسي على فرضية (فعل أي شيء، والتحالف مع الشيطان) لإسقاط النظام . الساحة السياسية زاخرة بالعديد من النماذج فحين تغيب المبدئية وتصبح السلطة هماً وهدفاً فى حد ذاتها ويغيب البعد الوطني والأخلاقي فإن المعارضة تصبح عملاً من أعمال الحرب ضد السياسي نفسه.
الدكتور يوسف الكودة واحد من النماذج المعاصرة اللافتة فالرجل انطلق من منصة السلفيين (أنصار السنة المحمدية) وكان ملء السمع والبصر بصرف النظر عن مواقفه ومدى صحتها ولكنه على كلٍ كان يعمل في ما يمكن أن اعتباره (سياجاً وطنياً) بل يمكن اعتباره نموذجاً فى ذلك الحين، الشاب الشهير الباحث عن (الطريق الوطني الخالص) وسواء كان الانقسام الشهير داخل جماعته بسبب المشاركة فى الحكومة بسببه هو أم لأسباب أخرى، فإن الكودة على أية حال حتى ذلك الحين كان لا يزال يحتفظ بمساحة معتبرة من الثبات على المبدأ والمرونة فى الحركة.
غير أن الطامة الكبرى التى أودت بالدكتور الكودة كانت من جانب آخر مختلف تماماً، فالشاب النابه اعتقد أن (الأوان قد حان) لركوب القافلة المتجهة الى السلطة وهي قافلة كانت تقودها جماعات مسلحة هي التى تتشكل منها ما يسمى بالجبهة الثورية. لقد كانت قاصمة الظهر للدكتور الكودة توقعيه على وثيقة الفجر الجديد بكل ما حملته وما عنته هذه الوثيقة الشؤم من جنوح نحو العلمانية وتقسيم السودان وتغيير هويته.
منذ اللحظة التى جلس فيها الكودة الى كلٍ من عقار وعرمان والحلو خط بقلمه إمضاؤه على ما اعتبروه هم نصراً له بإجتذابهم واستقطابهم لسياسي شاب سلفي الهوى وناشط لا يخلو من مرونة فى الحركة، كان د. الكودة يمحو تاريخه وإسمه من السجلات السياسية الرسمية فى السودان.
ويقول قريبون من الرجل طلبوا عدم الإشارة إليهم إن الكودة خدعته المظاهر المتمثلة فى البريق الإعلامي، واستهوته سرعة (سيارات الدفع الرباعي) المحملة بالبنادق و اجتياحها المدن واعتقد أن دخولها الخرطوم مسألة وقت وعليه أن يحجز مقعداً متقدماً له.
كانت كارثة الكودة التى لم يستطع الفكاك عنها انه فقد الاثنين معاً، فقد عشيرته السياسية الداخلية والذين كانوا منحوه ثقتهم فى حزب الوسط الإسلامي ثم خسر حلفاؤه فى الثورية الذين لم يستطيعوا أن يستفيدوا فائدة سياسية كبيرة من توقعيه، فقد كان هدفهم هو الغرر به بإعتباره ذا تجربة متواضعة فى المضمار السياسي وكانوا يتخذون منه غطاءً سياسياً ودينياً يباهون به ولكن الكودة الذي لم يكن يحتمل (النضال) ولا كان مهيئاً لمواجهات مع الشارع السياسي العام والسلطة الحاكمة جعلته تجربة السجن يعض بنان الندم على هذه الكبوة.
كان من الممكن أن يصحح الرجل خطؤه أو يتراجع أو يراجع، ففي السياسة كل هذه الخيارات متاحة، ولكنه آثر الابتعاد والانزواء بعيداً هنالك فى سويسرا فيما اعتبرها البعض (اختياراً للحياد) باعتبار أن سويسرا دولة محايدة دولياً.
إن اختيار د. الكودة العيش فى سويسرا ولو الى حين معناه أن الرجل نادم على المواجهة على ما أقدم عليه ولوث تاريخه ولم يعد قادراً على المواجهة وإحتمال النتائج، وهذا المصير ينتظر كل من مبارك الفاضل ونصر الدين الهادي والتوم هجو، فحين يقع السياسي فريسة لوحوش كاسرة فإن نجاته من بين أظافرهم تعتبر في حد ذاتها نصراً. هم نموذج لساسة سادوا ثم بادوا!

أسباب مخاوف جوبا الأمنية مؤخراً!

أصدر وزير داخلية جنوب السودان – الأسبوع الماضي – قراراً يحظر حمل أي نوع من السلاح وإلغاء تراخيص حمل السلاح، عدا تلك التى تحمل خاتم وزارة الداخلية.
قد يعتقد البعض أن هذه الخطوة لا صلة لها بالسودان وأنها محض شأن جنوبي داخلي تسعى بموجبه الحكومة الجنوبية -لأسباب قدّرتها أو عانت منها- لاستتباب الأمن فى الدولة الوليدة. ولكن الأمر له صلة بالعلاقات السودانية الجنوبية بطريقة غير مباشرة.
فالقرار الجنوبي لم يأت من فراغ لأن الحكومة الجنوبية الحالية جديدة يبدو أنها جاءت بإستراتيجية أمنية جديدة، كما يبدو وليس بمستبعد أن تكون للحكومة هناك مخاوفها وهواجسها من ردة فعل محتملة حيال خطة الرئيس الجنوبي -الصعبة- بإحالة كبار مساعديه وتحويل بعضهم للتحقيق، ولكن من الجانب الآخر فإن الخطوة الجنوبية فيها إشارة ضمنية الى شعور جوبا (بعدم الأمان) وهذه نقطة هامة وجوهرية فى الموضوع كله!
شعور جوبا بعدم الأمان أسبابه عديدة وتأتي فى مقدمتها مخاوفها من ردة فعل المقالين من الحكومة ومناصريهم، فقد لزموا الصمت حتى الآن وهو دون شك صمت ليس من المتوقع أن يستمر طويلاً والى الأبد. فى الواقع مخاوف جوبا بعدم الأمان هي مخاوف مردها الى تورطها السابق والقائم حالياً فى دعم مجموعات سودانية مسلحة تنشط ضد الخرطوم، ففي الغالب فإن شعور دولة ما بأنها متورطة فى شأن داخلي لدولة أخرى يجعلها تعيش ذات الهاجس الأمني الذي تعبث به مع الدولة الأخرى.
بمعنى؛ الآن جوبا باتت أكثر تخوفاً –عن أي وقت مضى– من انتشار السلاح داخل المدن وداخل العاصمة تحديداً لأنه من غير المعروف عماذا سيسفر انتشاره. وهذا بدوره نابع من أنها تخشى في الواقع هجمات مباغتة هنا أو هناك، بعدما كانت بالأمس القريب تنعم بالأمن وتصدِّر الاختلال الأمني الى الحدود السودانية والمدن السودانية القريبة منها.
إن جوبا أيضاً (ليست واثقة) من ما إذا كانت قادرة على إيقاف دعم المسلحين السودانيين فى ظل صراعها الداخلي أم لا؛ فإذا كانت قادرة على ذلك فإن عليها -كخطوة أولى- أن تفك ارتباطها بهم نهائياً وبصورة جذرية قاطعة، فهي على الأقل تعيش الآن حالة من الارتباك الأمني المشوب بالحذر، والهواجس هي نتيجة طبيعية لما اقترفته أيديها فى حق السودان لسنوات خلت.
الأمر الثالث أن من غير المستبعد تماماً – وجوبا مرتع خصب للاستخبارات الدولية – أن تشهد فوضى أمنية عارمة تطيح بحكومة الرئيس كير ومن ثم تصبح خسارتها مزدوجة، خسرت نفسها وأمنها وخسرت رهانها الخاسر أصلاً فى كف يدها عن العبث بأمن السودان.
وأخيراً ربما تخوفت جوبا أيضاً من الثورية، فالثورية بالنسبة لجوبا بدت مثل الأسلحة الأمريكية التى يتم تصنيعها فى معامل خاصة (تحت الأرض) وبعناية خاصة ولكنها تفقد السيطرة عليها فتصبح وحشاً كاسراً ينقضّ أول ما ينقض عليها هي. الثورية ربما تم توظيفها فى وقت ما – تتخوف منه جوبا – لتوجيه سلاحها الى جوبا أولاً قبل الخرطوم فأمثال أموم ودينق ألور بجراحهم النازفة لا يتورعون عن القيام (بأي شيء) لاسترداد كرامتهم وماء وجههم المراق!