الأربعاء، 3 يوليو 2013

مؤشرات ضبط مؤن أجنبية فى أبو كرشولا!

لم تزد الأنباء الموثقة التى أوردتها وكالة السودان للأنباء (سونا) حول ضبط مؤن لمنظمات وجهات دولية فى مخلّفات حرب منطقة أبو كرشولا بولاية جنوب كردفان عن كونها أضافت (أدلة) إضافية لجريمة دولية معروفة ومثبتة.
فمن الطبيعي والمعلوم بالضرورة منذ بداية الحرب الداخلية المستعرة فى أنحاء السودان أن العامل الأكثر تأجيجاً وتسعيراً لها هو العامل الأجنبي الخارجي.  هذه الفرضية تجاوزتها الأحداث، فالمحرك الرئيسي لكل ما يجري فى السودان هو محرك أجنبي له أهدافه الخاصة جداً والتي لا يشاركه فيها الأشقياء الذين جعلت منهم هذه الجهات الدولية وقوداً للحريق.
وقد كانت هنالك عدة إشارات على أن ما تشنّه الثورية من هجمات هو عمل خارجي محض وإن تم بأيدي متمردين سودانيين.
المؤشر الأول الآليات وعربات الدفع الرباعي الحديثة والتي تمت بها الهجمات، فهي مشتراة بتمويل أجنبي لأن من غير المتصور أن يقوم متمردون بشراء سيارات بهذا القدر وبهذا الحجم (من جيوبهم الخاصة) ويتم شحنها لهم مباشرة الى مقر الهجوم!
من المفروغ منه أن هنالك (جهة ما) تشتري هذه السيارات من الشركات المعنية وتقوم بشحنها ببوليصة شحن تحمل جنسية لدولة معينة ومحطة وصول بدولة معينة (ميناء) ومن ثم يتم تسيلمها رسمياً بواسطة تلك الدولة ليستخدمها المتردون.
هذا الأمر ظل يتم منذ أزمة دارفور. حركة خليل اشترى لها القذافي مئات السيارات التى هاجمت بها أمدرمان مصحوبة بمدافع محملة عليها. حركة عبد الواحد تشحن لها إسرائيل من إيلات مئات السيارات والمدافع الخفيفة الحديثة لتمر عبر كينيا وتحط رحالها فى كمبالا، ثم تؤخذ براً الى الجنوب ومنه الى دارفور.
هذه أمور أصبحت معروفة ومألوفة وهي فاتورة مؤجلة فى رقاب المتمردين بكمبيالاتها وفوائدها ومستحقاتها الأخرى، غير أن ما يمكن أن يلفت الانتباه بشأن ما جرى فيها من فظائع لم يكن فقط مجرد هجوم لأغراض تكتيكية.
لقد بدا واضحاً أن هنالك (هدفاً استراتجياً) يقضي بأن تتم السيطرة على المنطقة واحتلالها بصفة دائمة. ولهذا شهدنا كيف تخلصت الثورية من أي عناصر مناوئة لها بسرعة، وتركت مواطني المنطقة يهربون ويفرون بجلدهم وقامت بحشد كل قواتها وعتادها فى المنطقة.
كل هذه الترتيبات كانت مؤشراً على نية احتلال دائمة وهذا يفسر لنا وجود هذه (المؤن) بتلك الكثافة ودون مواربة، ففي حسابات الذي زوّدوا الثورية بتلك المؤن أن هناك استحالة فى إمكانية استعادتها بواسطة الحكومة السودانية وأغلب الظن أن حسابات وعوامل المناخ، وفصل الخريف، وهطول الأمطار مع صعوبة الحركة والتكتيك كلها عناصر تعيق استرداد المدينة، ولهذا جاء اللعب بالمكشوف.
الأمر الثاني إن من المحتمل أيضاً – كما رأينا فى أحداث جرت من قبل فى النيل الأزرق – أن يكون من بين المتمردين عناصر أجنبية (مرتزقة) يعملون ضمن قوات المتمردين، ولهذا جاءوا يحملون (زادهم) فهم غير معتادين على الطعام المحلي!
وهكذا، يمكن القول إن السودان لا يواجه تمرداً مسلحاً يستهدف فقط سلطته الحاكمة؛ هنالك (عمل خارجي) واسع النطاق يجري لنيل هذه الثمرة السودانية الناضجة بأي ثمن!

خلافات الثورية.. الحقيقة المحتومة!

كأمر متوقع ربما يصل الى درجة الحتمية فإن الخلافات سرعان ما بدأت تدب بين ما يسمى بالجبهة الثورية والأحزاب السياسية السودانية المعارضة. ففي أحدث أنباء تحصلت عليها (سودان سفاري) من مصادر مطلعة داخل مكونات التحالف، فإن المتمرد عبد العزيز آدم الحلو وجّه انتقادات لاذعة للأحزاب المعارضة بحكم الرباط الذي جمعهم فيما يُسمى بميثاق الفجر الجديد.
الحلو وهو يلعق جراحه المحشوة بملاح الهزيمة التى تلقاها فى أبو كرشولا أفصح عن نوايا حقيقية حيال حلفائه السياسيين، وأصابه حنق كان ولا يزال هو أحد أبرز ما يعتمِل فى نفسه حيال المكونات السياسية للثورية فوجّه إليهم جامّ غضبه المشوب باليأس وقلة الحيلة وربما نسي الحلو وهو أصلاً لا يعد فى زمرة الساسة وإنما هو مجرد سافك دماء لمع نجمه على أيام الراحل قرنق فى تنفيذ مهام الاغتيالات الصعبة أن ما فعله بحرابه المسمومة فى أبو كرشولا ذبحاً وتقطيعاً وتعليقاً على سِنان الجزارات لرجال من مختلف الأحزاب السياسية سوف يجرّ عليه عاجلاً أم آجلاً غضب حلفائه السياسيين، فى الداخل.
هناك مصادر أخرى تقول ايضاً إن الحلو شعر بأنه (وحده) ضحى كثيراً وواجه الدماء والرصاص باعتباره قائد العمليات التى جرت وخوفاً من أن يُوصم بأنه فشل في كسب المعركة، فإنه بادر بشنّ هجوم ليس فقط على حلفائه من السياسيين فى أحزاب الداخل، ولكن طال هجومه حتى رفاقه وأبرزهم مالك عقار الذي وصفه بأنه فشل في فتح جبهة موازية ومتزامنة مع الهجوم على أبو كرشولا فى جنوب النيل الأزرق.
وفيما يبدو أن الخطة كانت تقتضي قيام المتمرد عقار بفتح جبهة متزامنة فى النيل الأزرق تخفف من الضغط على الحلو  فى جنوب كردفان وإرباك الجيش السوداني تماماً.
ومن المؤكد أن الحلو إزداد غيظاً أكثر حين رأى زعيم حزب الأمة القومي السيد الصادق المهدي يعلن عبر حشده الجماهيري الأخير مفارقة الثورية على نحو ضمني، وصل مضمون الرسالة منه الى ذهن الحلو فآلمه غاية الألم.
إن أزمة الثورية فى الواقع هي أزمة تحالف لم ينشأ على أسس متجانسة. الحلو وعقار وعرمان كانوا يريدون استخدام الأحزاب السياسية المعارضة كغطاء سياسي؛ مجرد جواد يتم اعتلاء ظهره لعبور النهر.
الأحزاب المعارضة شعرت بأنها لا تستطيع تقديم (مساعدة) من أيّ نوع فى معركة اتسمت بسفك الدماء غزيرة وذبح وتقتيل فيكفيها ما لاقته وعانته من وثيقة الفجر الجديد؛ كما اتضح لها أن الحلو ورفاقه لو قُدر لهم الوصول الى الخرطوم فإنهم سوف ينصبون (مسلخاً) للجميع، بحيث لن ينجو أحد، ففي النهاية فإن الهدف هو تمكين الثورية بأبعادها العنصرية من السلطة وبسط سيطرتها عبر قواتها المختلفة على البلاد.
لقد كان إذن من المحتم أن تقع الخلافات وتزداد وتيرتها كلما ترامى إلى مسمع الجميع أن جوبا تقترب من الخرطوم وتتقارب معها وأن من الممكن أن تضطر جوبا فى يوم ما -لدواعي مصالحها- لبيع الحلو وعقار وعرمان فى (طرف السوق) بأبخس ثمن!

الاثنين، 1 يوليو 2013

واشنطون- جوبا.. اللعب علي كرت التطبيع

ألغت الإدارة الأمريكية بلا مقدمات زيارة مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني د. نافع علي نافع لواشنطون وقالت دوائر الإدارة إن أسباب إلغاء زيارة المسؤول الرفيع في حكومة السودان هي تراجع عملية السلام مع دولة الجنوب وإلغاء الخرطوم اتفاقيات التعاون بعد هجوم الجبهة الثورية علي مناطق أم روابة وابوكرشولا واتهام الخرطوم لحكومة جنوب السودان بدعم الجبهة الثورية وتمكينها من احتلال مناطق في عمق الشمال.
تعليق زيارة نافع لواشنطون أو إلغاؤها لا فرق بدا غير مبرر سيما أن واشنطون ربطت أسباب إلغاء الزيارة بتعليق الخرطوم لاتفاقيات التعاون مع الجنوب ويرى مراقبون أن واشنطون أصبحت تعول علي حكومة الجنوب كمخلب قط في المنطقة لتنفيذ أجندتها وزعزعة استقرار الأوضاع في الشمال بالعب علي ورقة القضايا العالقة بين البلدين.
مطلوبات واشنطون لتطبيع العلاقات مع الخرطوم متحركة باستمرار وتضم قائمة من المطلوبات الجديدة ولكن إلغاء زيارة نافع لواشنطون التي يفترض أنها ستناقش قضايا التطبيع كشفت عن ارتفاع سقف المطلوبات لتشمل أول مرة علاقة الخرطوم بجنوب السودان ولكن الإدارة الأمريكية أصبحت ذات علاقة وثيقة بدولة جنوب السودان الوليدة لدرجة أنها تربط تطبيع علاقتها بالخرطوم بإلغاء الأخيرة لاتفاقيات التعاون وتراجع فرص السلام مع الجنوب لأسباب ليست خافية علي جميع اللاعبين في المنطقة.
واشنطون وجوبا تلعبان إذن علي كارت التطبيع في مواجهة الخرطوم التي لا تخفي رغبتها في تطبيع علاقتها بواشنطون وجوبا ولكن الوطني قلل من تأثير إلغاء زيارة نافع وحسب دوائر ذات صلة بالمكتب القيادي للحزب فان نافع لم يطلب أصلا أي زيارة ونما واشنطون هي من قدمت الدعوة للحزب ولنافع كممثل للحكومة والمؤتمر الوطني ويرى مراقبون أن جماعات الضغط في الكونغرس واللوبيات اليهودية في العاصمة الأمريكية تمكنت باستمرار من تخريب علاقات  إدارة اوباما مع الخرطوم بالسودان باستغلال الملفات العالقة مع دولة جنوب السودان ولكن هل الإدارة الأمريكية راغبة فعلا في عودة العلاقات إلي طبيعتها مع الخرطوم.
يشير د. عوض السيد الكرسني أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم إلي أن السودان ليس في حاجة لتطبيع علاقته بأمريكا لأنه تمكن منذ سنوات طويلة من بدء المقاطعة الاقتصادية في العام 98 علي التعايش مع المقاطعة وظروف الحصار الاقتصادي الذي شمل قطاعات ذات اثر مباشر علي الحياة العامة في البلاد كقطاع الطيران المدني.
في سياق العقوبات وضعت واشنطون السودان ضمن قائمة وزارة الخارجية للدول الراعية للإرهاب في العالم برغم تعاون السودان غير المحدود مع المخابرات الأمريكية علي ملف مكافحة الإرهاب الذي استمر أكثر من عشر سنوات علي عهد مدير المخابرات السابق الفريق صلاح عبد الله قوش ولكن واشنطون لن ترد الجميل للخرطوم في أي مرحلة بل تلقت الأخيرة لطمات قاسية علي الوجه وكشف التدخل الأمريكي في ملفات السودان عن سوء تدابير الإدارة الأمريكية السابقة التي تولت ملف السلام مع الجنوب كونها سعت منذ البداية لإقناع منبر شركاء الإيقاد بضرورة النصح علي تقرير المصير لجنوب السودان عبر وضع نصوص مفخخة في اتفاق نيفاشا مثل الوحدة الجاذبة.
لن تعود العلاقات مع واشنطون لطبيعتها علي الأقل قبل نهاية فترة الرئيس اوباما العام 2014م والي حين قيام الانتخابات الأمريكية التي ستحمل رئيس آخر للبيت الأبيض فان الخرطوم ستظل علي الأرجح في تفاوض مستمر مع دولة جنوب السودان وسعي مستمر أيضا لتحسين العلاقات مع واشنطون ولكن عبر بوابة الدولة الوليدة في الجنوب.

الخرطوم وسياسة سد المنافذ وصيف عبور جديد!

لو نجحت الحكومة السودانية فى إغلاق الجبهة الجنوبية تماماً كما أحكمت إغلاق الجبهة الغربية المتمثلة فى دولة تشاد، ثم أعادت إحكام الجبهة الشرقية متمثلة فى اريتريا وإثيوبيا؛ فإن الثورية وقطاع الشمال لا محالة سيصبحان أثراً بعد عين.
ومن الملاحظ هنا أنه وفى الوقت الذي أمسكت فيه الخرطوم جوبا من (ساعدها الذي يؤلمها) بمنع مرور النفط وإحكام إغلاق الصنبور بقرار سوداني، فإن الخرطوم سارعت فى ذات الوقت لإعادة إحكام الحدود الشرقية حتى تتفرغ فيما يبدو للجبهة الثورية، إما بمواجهة حاسمة لا مفر منها وإما عبر عملية سياسية تثوب فيها جوبا الى رشدها وتلتزم بقواعد اللعب الدولي ومقتضيات حسن الجوار.
هذه الخطة السودانية -غير المعلنة ولكنها مبذولة ومتاحة لمن يقرأ ويتابع- لا تخلو من حذاقة وذكاء أكسبتها لها الأحداث والمفاجآت التى ما فتئ أعدائها يلاحقونها بها. فقد أدرك صناع القرار فى الخرطوم أن من الاوفق سد المنافذ أولاً وتجفيف (أماكن توالد اليرقات) وهذا تطور استراتيجي هام للغاية إذا كنا بصدد دولة تحاول بناء نفسها ولكن الحروب تعيقها وتذري الرياح ما تبني.
فإذا خصمنا من مجموع التحديات السياسية التى تواجهها الدولة السودانية قوى المعارضة الحزبية الداخلية والمتمركزة بصفة أساسية فى الخرطوم على أفضل الأحوال باعتبارها قوى حزبية متآكلة - لسبب أو لآخر- وما تزال أسيرة ماضي لن يعود ولا تملك أدوات جماهيرية للفعل السياسي، فإن ما يتبقى للحكومة من تحديات ينحصر بصفة خاصة على جبهتين :
جبهة غرب السودان المتمثلة في دارفور وجبهة الجنوب السوداني المستحدث ممثلة فى جنوب كردفان وبعض تخوم النيل الأزرق. ويمكن أن تنحصر هذه الجبهة فى ما يسمى بالجبهة الثورية المكونة من قطاع الشمال وحركات دارفور المسلحة.
الجبهة الثورية هي صناعة جنوبية سواء تمت فى كمبالا أو فى جوبا فالمواد الخام والماكينات كلها جنوبية حين أدركت جوبا أن قطاع الشمال غير قادر (لوحده) على القيا م بالمهمة بعد هزيمة الحلو فى جنوب كردفان وهزيمة عقار فى النيل الأزرق، جرى التفكير فى صناعة (خطة عسكرية) على طريقة (خلطة الأعشاب) الأفريقية المعروفة.
كان الخاسر الأكبر فى هذا الحلف هو حركات دارفور المسلحة، لأن الهزائم المتكررة التى مُنيت بها الثورية وآخرها هزيمة أبو كرشولا حُسبت على هذه الحركات الدارفورية -فهي جزء منها- وهذا بدوره جعلها تفقد قادة مهمين مثلما حدث لحركة العدل والمساواة التى انشق عنها عدد مقدر جراء حالة التوهان والتذويب الفاشلة فى الثورية، ولعل أفضل ما يؤكد تألم حركة العدل من الانشقاق قيامها بتصفية المنشقين على طريقة (عليَّ وعلى أعدائي) فهي خسرتهم برصاصاتها حتى لا يستفيد منهم خصومها وما درت أنها بذلك فتحت باب الانشقاقات المتوالية على مصراعيه، وتجاهلت التداعيات القبلية الخطيرة وقضايا الثأر والانتقام.
إذن أمام الخرطوم فقط مواجهة الجبهة الجنوبية وهو ما تفرغت له تماماً حين تأكدت من تأمين بقية المنافذ، ويبدو أنه (صيف عبور) جديد رتبت له بعناية متزامناً مع عمل سياسي شاق مع جوبا أمسكت الخرطوم بأوراقه جيداً في يديها من اللحظة التى قررت فيها غلق صنبور النفط الجنوبي وتركت جوبا (تقوم ولا تقعد).
ومن المؤكد أن صنبور النفط الجنوبي بات هو المفتاح السحري والشفرة الخطيرة لإرغام جوبا على إغلاق الجبهة الجنوبية تماماً إذا أرادت الحياة وهذا سيترتب عليه عاجلاً، تمزق الثورية، ففي السياسة وحالما يجف الضرع تنتهي تماماً عملية النمو ويبدأ الجسم فى التراجع والتدهور.
الثورية لن تعيش طويلاً بعد هذه المعطيات حتى ولو احتضنتها كمبالا، فالأخيرة لا تجمعها حدود مباشرة مع السودان وهناك محاذير إستراتيجية تحول دون حلولها محل جوبا. باختصار وضع السودان منشاره القاسي والحاد على العقدة الأمنية والسياسية وبدأ فى عملية النشر والتقطيع!

مشار في الخرطوم .. للنفي أو التطمين

تفاؤل بدا يكتنف دوائر الخرطوم ومجالسها، وربما حواريها، على خلفية تجديد حكومة الجنوب على زيارة د.رياك مشار نائب الرئيس في محاولة لإنقاذ الاتفاق بين البلدين، ونقلت تقارير اعلامية عن برنابا مريال بنجامين وزير الإعلام الناطق الرسمي باسم حكومة جنوب السودان تصريحه عن أن زيارة مشار تأتي ضمن اتفاق مسبق بين الرئيسين البشير وسلفاكير على تكوين لجنة عليا مشتركة يرأسها من جانب جوبا رياك مشار ومن جانب الخرطوم علي عثمان طه، كاشفاً عن مرافقة رياك وفد رفيع من وزراء حكومة الجنوب.
ارتياح الخرطوم واندياحها مع برنامج الزيارة وتوقعاتها حيال النتائج بدا مرتبطا الى حد بعيد بسيرة الرجلين التي تتسم بالحكمة وقدرتهما التفاوضية في كبح جماح العدائية والانفلات التفاوضي المعطل للعديد من الاتفاقات..
المراقبون اعتبروا أن مبررات التفاؤل غير مرتبطة البتة بشخصية الطرفين بقدر ارتباطها بتوقيت الزيارة والبيئة المشحونة التي تحيط بها والضغوطات التي تخضع لها الدولتان جراء ظروفهما الداخلية وحاجتهما لانقاذ اتفاقات التعاون، ويشيرون الى تصريحات وزير اعلام الجنوب وتوقعاته حيال الزيارة وقوله إن الزيارة يمكنها النظر في القضايا الخلافية، وأن ملف النفط لا يزال معلقا بين الخرطوم وجوبا ولم تحدث فيه اختراقات، معرباً عن أمله في الحل وأن الخلاف ليس أمرا مستعصيا. وأكد الوزير أن بلاده راغبة في حل خلافاتها مع الحكومة السودانية عبر الحوار والتفاوض وأنه لابد من استثمار الوقت لصالح أعمال إيجابية.
تجديد اعلان زيارة رياك مشار اعتبرها الكثيرون حفظاً لماء وجه الخرطوم، بعد اهدارها له بخطأ دبلوماسي تكتيكي فادح، ويذهبون الى أن اعلان الخرطوم اغلاقها لانبوب النفط ما دفع جوبا لتسمية نائب رئيسها للتفاوض مع الخرطوم وبالتالي فإن الاخيرة في الموقف الأفضل سياسياً، ليتجلى الضعف في اعلان الخرطوم قبولها مقترحات الوساطة قبيل اعلان جوبا وقبل وصول رياك مشار للخرطوم ، ما خلق تشويشاً في قراءة وتفسير تأجيل زيارة مشار أو تأخرها، بيد أن تجديد الاعلان مثل انقاذاً سريعاً لخطأ الخرطوم..
مخاوف كثيرة اكتنفت الخرطوم الرسمية من جراء أن تكون زيارة الرجل محملة على أجندة خلافاته مع الرئيس سلفاكير بحثاً عن تحالف يقيه وطأة العزل والتجريد من الصلاحيات التي اعلنها سلفاكير في حقه خوفاً من منافسته انتخابياً، وهو الامر الذي رجحه متشائمو الحزب الحاكم وأعتبروه ظاهراً للعيان، متوقعين أن يشكل الصراع الجنوبي الجنوبي معوقاً أمام احداث اختراق حقيقي في ملف الازمة لصالح الاستخفاف والتقليل من وزن مشار ..
دوائر صنع القرار في الدولة الجنوبية بدت مدركة لتخوفات رسميي الخرطوم ، وكشفت عن أن سقف التفاوض الممنوح لرياك مشار أكبر مما تسرب عن خلافاته مع قيادته، وهو ما اكده بنيامين بتوضيحه بأن مشار يأتي إلى الخرطوم بأمر مجلس وزراء حكومة بلاده وبتفويض مباشر من المجلس وينبغي على حكومة الجنوب أن تحترم قراراتها وتلتزم بما يتوصل إليه مفوضها رياك مشار.
مشار بحسب المحلل السياسي والقيادي الاتحادي صلاح الباشا يحظى بتقدير خاص في الخرطوم ووضعية مميزة في نفس الرئيس البشير ونائبه الأول علي عثمان طه، بحكم الصدقية التي يتمتع بها بالاضافة لمشاركته الانقاذيين منذ وقت مبكر وسبق ذلك أن أمتهن التدريس بكلية الهندسة جامعة الخرطوم، وله علاقات تاريخية رسمية وشخصية مع القيادة السياسية السودانية حيث شغل مناصب عدة أبرزها منصب مساعد الرئيس البشير عقب توقيعه اتفاق الخرطوم للسلام مع الحكومة السودانية في العام 1997م، بالاضافة لعدم مشاركته ضمن لجان التفاوض تحت لواء الوساطة الافريقية التي يتم النكوص عن اتفاقاتها ..
البرلمان السوداني في شخص نائب رئيس مجلس الولايات د.اسماعيل الحاج موسى ، أبدى تفاؤله عن اختيار الجنوب لمشار في التفاوض مع الخرطوم حول الازمة الاخيرة ، واعتبر موسى في حديثه لـ(الرأي العام) أن الزيارة المشارية تأتي لتقريب وجهات النظر بين الطرفين وكبح جماح الازمة الحالية ، باعتبار أن الخرطوم وجوبا لا يمكنهما الاستغناء عن بعضهما بحكم الجغرافيا والتاريخ والحدود المشتركة التي تعد من أطول الحدود بين دولتين .. وقال( ما يضاعف أهمية زيارة مشار كون الدولتين تحتاجان لتركيز جهودهما على قضايا التنمية باعتبارها القضية الاهم والاحوج للجهد ، وهو ما لا يحدث بدون استقرار وبدون سلام بالتالي فالزيارة ذات أهمية قصوى).
وحمّل نائب رئيس برلمان الولايات الجنوب مسئولية تردي الموقف وتدهوره واعتبره مصدر الزعزعة والمبادرة بالتحرش فارضاً على الجنوب وجوب الامتنان للحكومة الحالية لأن الجنوب ومنذ الاستعمار لم يتم منحه حق تقرير المصير الا من الانقاذ التي التزمت بوعودها في الاستفتاء وفي الاعتراف بالنتائج وبالانفصال وبالدولة الجديدة، وقال( في المقابل لم يفِ الجنوب بأي وعد).
اسماعيل توقع بروز نتائج ايجابية للزيارة مراهناً في ذلك على شخصية مشار الوفاقية والمقبولة من القيادة السودانية وكونه محل ثقة مقارنة بغيره من مفاوضي الجنوب، واصفاً مجيئه للخرطوم بأنه يأتي لمزيد من الحوار والتفاهمات ولإعادة ترتيب الاولويات التي ترى الخرطوم الأمن في مقدمتها ، بينما يراها الجنوب نفطاً وانابيب، وتوقع أن تحمل حقيبة الرجل ما يطمئن الخرطوم على ايقاف الدعم أو تبرير لما تم سابقاً ، بالاضافة للاتفاق على منح أبيي وقتها كاملاً كقضية دون تعجل في حسم ملفها .
من جانبه اعتبر الباشا أن الزيارة تأتي لاحتواء الموقف ، باعتبار أن الدخول في حوار مباشر بين الطرفين دون الوساطة من شأنه كسب الوقت ويمكن الجميع من التوغل بعمق في لب المشكل ، واتفق صلاح مع اسماعيل في ان تكوين رياك مشار يجعله ملماً بالذهنية السياسية في الخرطوم وجوبا خاصة وانه لم يسبق له الاشتراك في لجان التفاوض التي تعمل تحت رعاية الوساطة ، وطالب الباشا الخرطوم بتوسيع واتاحة الفرصة لجهود رياك مشار مع نظيره في الخرطوم علي عثمان ليعملا بجديتهما في الوصول لنقاط مشتركة وايجابية تنزع فتيل الازمة مستقبلاً ليس في النفط فقط ولكن لفتح بوابات التعاون التام بين الدولتين وكأنهما لايزالان تحت مظلة الدولة الواحدة.
بعيداً عن حسابات السياسيين وتوقعاتهم إلا أن توقيت الزيارة وشخوصها واجندتها مهما بدت خافية ، الا أنه من حيث مبدأ الحوار جعل الكثيرين في الخرطوم يتنفسون الصعداء باعتبار أن الحوار بمبادرة وزيارة جنوبية يعني بشكل أو بآخر انتزاع زمام المبادرة من تيار الصقور وجنرالات الحرب لصالح تيار السلام أو التيار المرن في حكومة جوبا، ما يجعل تحقيق اختراق في المشهد أمراً يتوقف على حقيبة مشار السوداء وأوراقه البيضاء وخط السلام الذي سيكتب عليها ..

ورطة مجلس الأمن بشأن قطاع الشمال!

من المؤكد أن مجلس الأمن حائر الآن فيما إذا كان من الملائم تجديد دعوته الى الحكومة السودانية وما يسمى بقطاع الشمال للجلوس من جديد للتفاوض أم أن عليه (أن يدع العاصفة تمر)؟
ربما تحرص رايس المنتقلة فى يوليو المقبل الى البيت الأبيض قرب الرئيس أوباما مستشارة للأمن القومي على أن تحمل معها -ضمن أوراقها فى نيويورك- الملف الخاص بالمفاوضات مع قطاع الشمال لتصبغه -مثل ما تحرص على صبغة شعرها- بصبغة رئاسية وتعطيه أولوية فى جدول أعمالها المنتظرة، وربما يدخل الملف في متاهة التناقض المكتوم والغيرة النسائية اللافحة بين السيدة رايس والجديدة التى ستخلفها فى المقعد الأممي فى نيويورك.
غير أن من المهم بالنسبة لنا أن ملف التفاوض لم يعد بالإمكان الحديث عنه بذات النبرة السابقة التى كانت تجيدها رايس فمن جهة أولى، وقبل أن يحث مجلس الأمن الخرطوم للتفاوض مع القطاع عليه أن يقرر إدانة ما اقترفه القطاع (تحت غطاء الجبهة الثورية) من جرائم وفظائع فى أبو كرشولا بجنوب كردفان .
لن يستطيع مجلس الأمن أن يتجاوز هذه النقطة الحرجة بسهولة، فسوف تطالب الخرطوم بإدانة ما جرى إدانة صريحة، وإن لم يفعل مجلس الأمن -وهذا هو مأزقه- فإن الخرطوم بالمقابل لن تستجيب لقرار بهذه الدرجة من الازدواجية السافرة يكيل بمكيالين فى أمر، ويتخير مكيالاً آخر لذات الأمر!
ومن جهة ثانية فإن مجلس الأمن ما تبنّى عملية التفاوض وحشرها حشراً فى صلب القرار 2046 إلا لكي يساوم بها الخرطوم على قضايا خاصة بدولة جنوب السودان وقد بادرت الخرطوم بوضع دولة الجنوب فى زاوية ضيقة حرجة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقصبتها الهوائية، بحيث تحولت الأنظار الآن الى محاولة (عتق رقبة جوبا) من القبضة السودانية بعد أن (بانت عروقها) واحمرّت عيناها وباتت قاب قوسين أو أدنى من الموت المحقق!
ولو تغاضت واشنطن عن قضية النفط الجنوبي فإن عليها أن تستعد لسداد ملايين الدولارات لتغطية عجز الموازنة الجنوبية، وبالمقابل ما من شيء يضمن لها نجاح القطاع أو الثورية فى تحقيق نصر سريع على الخرطوم لا على المدى القريب ولا على المدى البعيد. فقد رتبت الخرطوم كل أوراقها لخوض معركة فاصلة حددت زواياها ومساحتها بدقة، فهي عازمة على وضع حد لكل منغصات أمنها القومي مهما كان الثمن.
وبالطبع فى مثل هذه الحالات فإن الأطراف جميعها تبحث عن (مهدئات) ودواء ناجع فى ذات الوقت وهي مهمة شاقة.
ومن جهة ثالثة فإن مجلس الأمن سيسأل نفسه عن جدوى إجراء مفاوضات بين الخرطوم وقطاع الشمال وقد فقد القطاع عملياً أدنى تأييد له داخلياً. فالأمر هنا يختلف كليةً عن الحركة الشعبية فى السابق (نيفاشا 2005) ففي حالة الحركة الشعبية كان هناك احتمال لتقرير مصير وقيام دولة جنوبية.
الآن ما من مجال لمجرد الحديث عن تقرير مصير على الإطلاق! إذ ما الفائدة المرتجاة من مفاوضات أقصى ما تفضي إليه هو أن يتوقف القتال ويعود القطاع كلاعب سياسي فى الساحة (فى حدود مهاراته الفردية) وفى غياب أيّ سند جماهيري، وفى خضم أطياف سياسية عديدة ؟ مجلس الأمن هو الآن نفسه فى ورطة!

أسوأ ما فى مقترحات أمبيكي بالنسبة لجوبا!

حظها العاثر -وبعد أن عبثت بكل شيء طويلاً- قادها الآن الى مساحة ضيقة للمناورة، وفسحة زمنية أضيق للإلتفاف على النصوص. فالحكومة الجنوبية الآن أمام خيارين لا مجال للإفلات منهما: قبول مقترحات أمبيكي باعتبارها الطريقة الوحيدة المتاحة للحيلولة دون تجميد نفطها ومن ثم تجمُّد دماؤها فى عروقها بكل ما تحويه هذه المقترحات من سنان حادة لا تمنح فرصة للتلاعب والمراوغة؛ أو رفضها ومن ثم تطاول أمد الحلول الممكنة وانقضاء فترةالـ60 يوماً لتتحول الدولة الوليدة الى خرقة اقتصادية بالية!
كثرة تلاعب جوبا بالمواثيق والعهود أوصلتها الى هذه الحالة المؤسفة من الخيارات الصعبة. ولعل الأكثر سوءاً أن ملف اجتراح الحلول ما يزال فى البيت الإفريقي إذ لم يعد لمجلس الأمن -كما كانت تشتهي جوبا- دوراً في هذه المرحلة ومن البديهي أن مجلس الأمن وحتى حين يحين أوان تدخله لا يملك قوة إلزام السودان بتمرير النفط الجنوبي.
يستطيع -مجلس الأمن- فقط أن يهدد وأن يتوعد أو يحث الخرطوم وجوبا على الجلوس للتفاوض، وهذا الأمر لم يعد مجدياً فجوبا لا يتملك إرادة ولا قدرة لتحمل التزاماتها.
مقترح أمبيكي يضعف كل موقف جوبا -طولاً وعرضاً- فهي لن تتمكن من تمرير الدعم للمتمردين مهما برعت فى ذلك فهناك توقيتات زمنية وهناك (إمكانية إعادة إغلاق الأنبوب) إذ أن شرط الإغلاق من شروط السودان الرئيسية التى لا تقبل المساومة وهناك أيضاً (مراقبة لصيقة على الأرض). هذا الوضع سيجعل جوبا (يدها مغلولة على عنقها) على الأقل لعامين قادمين هي الفترة التى تستغرقها عملية إنشاء خط بديل بحسب ما بدأت تخطط له جوبا وبالطبع تعتبر فترة العامين – فى الحسابات السياسية – فترة مهولة للغاية تجري فيها مليارات المكعبات من المياه تحت الجسر.
ومن جهة ثانية فإن جوبا باتت تواجه الآن تساؤلات داخلية من الصعب التغاضي عنها إذ ما هي مصلحتها كدولة – وليس كحكومة – فى دعم متمردين سودانيين على حساب اقتصاد الدولة واستقرار شعبها؟
هذا السؤال المخيف بات يسيطر على ذهنية الرئيس الجنوبي بعنف إذ من المؤكد انه سؤال لا يملك له الرئيس كير إجابة وإذا ما قرأنا ذلك مع قرب الاستحقاق الانتخابي وشعور الرئيس كير بمنافس خطير مثل الدكتور مشار و (آخرين) لم يظهروا فى الساحة بعد؛ فإن الرئيس الجنوبي سيفعل المستحيل للرضوخ أخيراً الى ما لامناص من الرضوخ له.
قد يراهن الرئيس كير على واشنطن أو تل أبيب ولكن هاتين الدولتين تكونت لديهما قناعة سياسية راسخة بأن من الصعب إن لم يكن من المستحيل إسقاط الحكومة المركزية فى الخرطوم، أو أن إضعافها نفسه على أقل تقدير سوف يفتح باباً للفوضى الأمنية تتأذى منه جوبا نفسها.
ولهذا فإن بعض تصريحات المسئولين الأمريكيين -من حين لآخر- حول عدم رغبة بلادهم فى الإطاحة بالحكومة السودانية فيه شيء من الواقعية حتى ولو لم تبلغ درجة المصداقية الكاملة! إذ أن ضعف المركز على حساب الهامش يجعل السيطرة على المنطقة كلها صعباً للغاية وواشنطن فى نهاية المطاف حريصة على السيطرة على منابع النفط وإسرائيل حريصة على منابع المياه وإذا ما اختلطت المياه بالدماء أو تفجرت أنابيب النفط فإن مصالحهما تكون قد انقضت تماماً.
ربما يقول البعض إن مقترحات أمبيكي فى النهاية (بتشاور) مع واشنطن، أو أن الرجل -بحكم الخبرة- بات على علم بما يفتح الباب للحل ولكن على أية حال هي مقترحات وإن أنقذت جوبا إلا أنها أخذت منها عنوة أوراقها السياسية التى ظلت تحتفظ بها وتلاعب بها السودان