السبت، 29 يونيو 2013

موضع الألم في جسد المعارضة السودانية المنهك!

دائماً تتألم قوى تحالف المعارضة من مواقف حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي. والغريب والأكثر مدعاة للدهشة أنها لا تحسن المحافظة عليه ضمن تحالفها ولا تطيق بالمقابل ابتعاده شبراً عنها.
وبالتأكيد فإن واحدة من أبرز استخلاصات هذا الوضع أن تحالف المعارضة مخصوماً منه حزب الأمة لا يساوي شيئاً، ففي طيات ذلك تكمن أسباب الدموع التى تذرفها قوى التحالف كلما تحسست صفوفها المتداعية ووجدت الأمة (خارج الصف)!
وقد كان خير من عبّر عن هذه الحقيقة المتحدث بإسم تحالف المعارضة كمال عمر، فالأخير وبعد أن أبدى زعيم حزب الأمة الصادق للمهدي تبرؤه من برنامج الـ100يوم، سارع (وهو يلهث) ليؤكد أن الأمة القومي شارك فى وضع الخطة!
غرابة الأمر هنا تكمن فى أمرين: الأمر الأول أن كمال عمر هنا بدا حاله كحال المتهم الذى (يعترف) على متهم آخر، مع أنه (رجل قانون) وله خبرة لا بأس بها فى مجال المحاماة فإنه لم ينتبه الى أن الاعتراف يلزم المعترف وحده ولا يتعداه لآخرين وأن الشهادة التي يدلي بها الشريك لا تؤخذ كدليل إثبات فى مواجهة شريك آخر.
الأمر الثاني أن مشاركة الأمة القومي فى وضع الخطة من عدمها؛ ما الفائدة المرجوة منها إذا كانت الخطة (التى كُشفت) غير قابلة عملياً للتنفيذ؟ فكأنّي بالأستاذ كمال عمر يريد إعادة قصة الثعلب الشهيرة التى تتلخص فى قيام الثعلب دخول حقل بطيخ ثم تفاجؤه بحضور صاحب الحقل فلما جرى وحاول اجتياز السور انقطع ذيله فأصبح محل ضحك وسخرية من بقية الثعالب! ولكي يضع حداً لهذه السخرية وجه دعوة للثعالب الآخرين لزيارة ذات الحقل ثم صاح فيهم -أثناء تمتعهم بتناول البطيخ- بأن صاحب الحقل قد حضر؛ فحدث لهم ما حدث له وتساوى الجميع!
من المؤكد أن الأمة القومي كجزء من التحالف يتفق فى أمور ويختلف فى أمور معهم، ومشكلة قادة التحالف أنهم يضعون الأمة القومي (فى ميزان واحد) مع بقية مكونات التحالف فى كل شيء! ومشكلة الأمة أنه يرى انه (حزب عريق) اضطرته الظروف فقط للجلوس مع (مشرديّ) السوق السياسي وهو لا يشبههم ولا هم يشبهونه! وسواء كان الأمة يجيد اللعب والمراوغة السياسية -هنا وهناك- أو أنه يلعب لصالح ورقه، فإن المثير للانتباه حقاً أن قوى التحالف مشغولة فقط بأين يجلس الأمة؟
الأمر الآخر إن قوى التحالف مضت فى تحالفاتها مع المتمردين وتجاوزت خطوطاً عديدة (أكثر من حمراء) سعياً منها للنيل من خصمها اللدود، الوطني، ومن الطبيعي أن حزب الأمة – ومهما كان رأينا فيه – يفرِّق بين (الخيط الأبيض من الأسود) أفضل من غيره! وهي نقطة ما تزال غائبة على كمال عمر وبقية العقد الفريد.
أمر آخر أكثر مدعاة لدهشة وهو أن التحالف لا يدري -ولن يدري بالطبع- كيف تسربت خطته المئوية من (خزانته السياسية الخاصة) الى الأرجاء الفسيحة الواسعة فى السوق السياسي! وبدلاً من البحث والتمحيص حول هذا الأمر جعل قضيته كلها فى محاولة إثبات مشاركة المهدي فى وضعها وكأنّ الأمة القومي هو موضوع التحالف!
ربما نسي كمال عمر -وما أكثر ما ينسى الشاب المتوثب- أن حزبه الشعبي وبقية أحزاب التحالف سبق لها أن (تبرأت) من وثيقة الفجر الجديد حينما حانت (ساعة الحقيقة) فما الذي يجعل تبرؤها ذاك مشروعاً وتبرؤ المهدي غير مشروع؟

الخميس، 27 يونيو 2013

لماذا قبلت الخرطوم مقترحات أمبيكي؟

حين أعلنت الخرطوم –الأحد الماضي– قبولها مقترحات رئيس الآلية الأفريقية الرفيعة ثامبو أمبيكي لمعالجة الوضع المأزوم بين جوبا والخرطوم جراء وقف الأخيرة ضخ النفط الجنوبي عبر أنابيبها بالطبع كان للخرطوم حساباتها وتقديراتها، فالملعب السياسي لم يكن مهيأ للخرطوم ومواتياً لتحقيق أهداف فى الشباك الجنوبية كما هو الآن وهي النقطة التى ظلت غائبة طوال الفترة الماضية عن (اللاعبين الجنوبيين) بل وحتى (المدرب الأجنبي) وبعض (المحترفين) هناك!
أولى تقديرات الخرطوم أنها تبدي مرونة سياسية فى قبول الحلول. فقرار وقف ضخ النفط لم يكن عملاً انفعالياً لحظياً لتهييج الوضع؛ والخرطوم صبرت كثيراً جداً لجوبا طوال الـ15 شهراً أغلقت فيه الأخيرة محابس الضخ لمجرد خلاف فى سعر التصدير.
واحتملت بالإضافة الى ذلك غائلة الدعم الجنوبي المتواصل للمتمردين، ولهذا حين اتخذت قرارها بوقف الضخ لم تصم أذنيها بقدر ما أرادت أن تستمع وترى وتشاهد حتى تختار أفضل ما يضمن لها إلتزام جوبا بما يفترض أن تلتزم به فعلا لا قولاً.
مقترحات أمبيكي تفتح باباً للبحث عن ضمانات جادة وتتيح فى الوقت نفسه تحويل الأنظار الى جوبا لينظر العالم كيف ستتصرف حيال إلتزاماتها.
ومن الناحية الثانية فإن الخرطوم فيما يبدو حرصت على إيجاد (مخارج طوارئ) لجوبا، فهي حريصة على علاقات الشعبين ولا تود أن تفقد أواصر العلاقة بين شعبين كانا شعباً واحداً قبل أشهر قليلة. وسوف تشعر جوبا بحجم الضغط الشعبي عليها وأن الأوان قد حان للإلتفات الى رغبة شعبها.
لن يكون من أمنيات وتطلعات الشعب الجنوبي أن يروا حكومتهم تزعزع استقرار الأرض التى يمشي فيها نفطها وترى الملايين من الدولار ت تتحول الى سائل متجمد فى الأنابيب، لا هو تحول الى أموال تفيده وتطعمه ولا هو بقي فى آباره الى حين ميسرة!
من ناحية ثالثة فإن الخرطوم بقبولها لمقترحات أمبيكي بأن تضع يدها على رأس الخيط فالمقترحات تضمنت استحداث آليات مراقبة وتحديد خطوط على الأرض وغيرها من الأمور الموقوتة بمدة محددة لا تتجاوز منتصف يوليو المقبل.
الأمر هنا بالنسبة لجوبا يخلق لها ارتباكاً فهو شبيه بأحكام (حسن السير والسلوك) التى عادة ما تصدرها المحاكم حيال متهم يُرجى صلاحه! فالقاضي يحدد فترة زمنية للمدان ليظهر فيها حسن سيره وسلوكه وإذا ما ظهر عليه غير ذلك –فى الفترة المحددة– تتحول فترة الاختبار المقررة الى عقوبة!
ربما رأت الخرطوم أن (اختبار جوبا) بآليات مراقبة وتحت بصر العالم لفترة زمنية محددة يحقق أحد أمرين: إما أن تكف جوبا وتقلع نهائياً عن الدعم، وهذا هو المطلب الاستراتيجي الحيوي للخرطوم؛ وإما أن تنكشف سوءة جوبا وتخفق فى الاختبار ومن ثم تكون الخرطوم على حق ليتداعى العالم بعد ذلك باحثاً عن الحل لدى جوبا وحدها!
من جانب آخر فإن جوبا أدركت وربما لأول مرة أنها ومنذ أن استخدمت سلاح البترول كسلاح فى نزاعها مع الخرطوم بدأ ذات السلاح يصيبها منه مقذوف إرتدادي كما يقول خبراء السلاح، فقد كان خطأ استراتيجي قاتل ذلك الذي دفعها لإدخال (عنصر الطعام الوحيد لها) فى ميدان النزاع وجعله سلاحاً ضمن سائر الأسلحة.
وهذا فى الواقع ما يجعلها أسيرة لسلاحها ومن ثم فسوف تبذل قصارى جهدها لإخراج هذا السلاح من المعركة، والطريقة الوحيدة المتاحة لها في هذا الصدد هو أن تقرر –بإرادة نافذة– أن تدع السودان وشأنه وأن تكف يدها عن شئونه الداخلية وربما كانت هذه هي المرة الأولى فى تاريخ النزاعات الدولية التى تضطر فيها دولة (للندم) على استخدام سلاح لم تكن تعلم أنه يعمل باتجاهين، باتجاه الخصم وباتجاهها فى ذات الوقت!

الثلاثاء، 25 يونيو 2013

لصوص VIP !

على الرغم من أن قضية (سرقة أموال) من مكتب الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت لأكثر من مرة، قضية يمكن اعتبارها (جنائية داخلية) تخص الحكومة الجنوبية التى تعج بالذين يجيدون هذه اللعبة منذ (قضية الـ60 مليون دولار) الشهيرة والتي سُرقت فى بداية الفترة الانتقالية؛ إلا أن هنالك ظلال سياسية ممتدة لمثل هذه القضايا (المخجلة).
بعض هذه الظلال ظلت تمتد الى السودان، بل لا نبالغ إن قلنا إن (سرقات كبار المسئولين فى جوبا) ظلت وعلى مدى سنوات مصدر إيذاء للسودان، ولكي نفصِّل الأمر نضعه فى عدة نقاط.
أنباء سرقة 7 مليون دولار من مكتب الرئيس كير مؤخراً اضطرت الرئيس الجنوبي لإيقاف رجلين من كبار المسئولين الجنوبيين يُصنّفون عادة ضمن خانة (الصقور)، أولهما دينق ألور وثانيهما كوستا مانيبي.
إن مجرد إيقاف مسئولين كبار (بتهمة شائنة) كهذه وهي السرقة، أي (السطو) على الخزينة الرئاسية، عبر التسلل خلسة، أو باستخدام (أدوات) غير معتادة أو (مفتاح) جرت طباعة نسخة منه أو (بنفس المفتاح) ولكن فى غيبة الرئيس (ومن ورائه)، مجرد الإيقاف يعني وجود (أدلة مبدئية) تستوجب التحقيق، فالإيقاف فى حد ذاته مهم جداً وإن كان مجرد عمل روتيني وصيغة إدارية، إلا أنه جزء وعنصر مهم جداً من عناصر التهمة، وليس مهماً هنا بعد ذلك أن تثبت التهمة قضائياً أم لا، المهم أن (التهمة) حامت حول الرجلين والتُهم لا تحوم جزافاً.
هذه النقطة لها ظلالها (السياسية) على السودان، إذ أن السيد دينق ألور واحد من غلاة وعتاة المتشددين ضد السودان، خاصة فى قضية أبيي، وللرجل وبقية رفاقه ما يمكن أن نصفها بضغينة سياسية خاصة جدا تجاه السودان.
فإذا كان رجل كهذا فى موقع (وزير الرئاسة) أو ما يُعرف فى علم النظم السياسية الوزير الأول يقع ضحية إتهام شائن كهذا، فإن من المؤكد أن الرجل (سرق الكثير والكثير جداً من قرارات الرئيس كير فى شئون متعلقة بالسودان)! ليس هنالك من يسرق مالاً ولا يسرق (أشياء أخرى مهمة).
وليس بمستبعد أن يكون ألور أحد سارقي قرارات الرئيس كير بشأن وقف دعم المتمردين السودانيين، ومعالجة كافة النزاعات ما بين البلدين. ليس من المستبعد أن يكون ألور عرقل أيّ تقارب مع السودان بما في ذلك إعادة ضخ النفط طالما أن قضية أبيي لم تُحل بعد؛ وهو حل يريد ألور ورفيقيّه، لوكا بيونق وإدوارد لينو، أن يكون لصالحهم!
النقطة الثانية أن السرقة ربما تكون (بدافع شريف)، رغم طرافة التعبير! فلربما أراد السارقون –وهم فعلوها للمرة الثانية– أن يجعلوا مكتب كير (موضعاً للشبهات) وأن يجعلوا الرئيس كير يشك فى كل شيء، ويفقد الثقة في مساعديه والمقربين منه وهذا سيناريو يخدم (أصحاب أبيي) بحيث يجعلهم أكثر تأثيراً أو يقود الى فقدان الرئيس كير لأعصابه ومن ثم تتحدد الاتجاهات والبدائل! ومن المؤكد أن السودان مقصود من بين طيات هذا السيناريو لأن البدائل -فى تفكير ألور ورفاقه- هي انتزاع أبيي بالقوة!
النقطة الثالثة إن سرقة الأموال -فى حد ذاتها- مقصودة لدعم بعض المتمردين هنا وهناك ضد الرئيس كير نفسه وجعله يشك فى من حوله ومن ثم يبدأ باتخاذ قرارات إحالة للمعاش ويقع فى تخبُطات يستفيد منها ألور ورفاقه، فالسياسة فى الذهن الإفريقي –وعلى وجه التحديد فى دولة جنوب السودان– هي أن البقاء (لصاحب المال)، وأن بالمال يمكنك شراء (من تريد) و (ما تريد) فى أي وقت . هؤلاء المتهمين يريدون شراء أبيي (بدون ثمن)، والسرقة في الأعراف والثقافات المحلية هناك (ليست جريمة)!

طه مشار هل من خيار؟

أياً كانت نتائج ومآلات لقاء نواب الرؤساء -مشار وطه- على خلفية النزاع  الناشب بين الدولتين، فإن فكرة إرسال جوبا لنائب الرئيس الى الخرطوم على أية حال لم تكن سديدة (Not good idea). ربما كان لجوبا حساباتها ولكن مهما كانت تلك الحسابات فإن الخرطوم -حتى وهي فى مرحلة التفكير لم تكن موفقة- حتى ولو تم اللقاء وأسفر عن ما أسفر عنه وذلك لعدة اعتبارات.
أولها أن مجمل الاتفاقات الموقعة بين البلدين وفى مقدمتها -والأبرز على الإطلاق- اتفاقية التعاون المشترك والمصفوفة الخارجة من رحمها؛ وهي نتاج جهد رئاسي على مستوى القمة بين رئيسيّ البلدين، ولا توجد فى العلاقات الدولية سلطة أخرى أقل أو أعلى يمكن أن تعيد نقاش ما تم بين الرئيسين.
الأمر هنا بدا وكأنّه رجوع الى الوراء وبداية جديدة، فلو كانت الدبلوماسية الرئاسية والجهد الجبار الذى بذله الرئيسان لم يجد الاحترام المطلوب من جوبا فما عسى يجدي لقاء النائبين؟ جوبا هنا إما أنها تستهين بالأمر، أو أنها غير مدركة لطبيعة الملف وخطورته.
الاعتبار الثاني أن القضية ليست فى الاتفاق والتوافق، ولا حتى فى النصوص وآليات التحقق وغيرها من الآليات؛ القضية ترتبط بسؤال محوري وجوهري يخص جوبا: هل هي تملك الإرادة السياسية الكافية المنفردة على الالتزام بالاتفاقات أم لا؟ الحوادث أثبتت بجلاء أن جوبا تفتقر للإثنين معاً؛ المقدرة والإرادة السياسية بصرف النظر عن الأسباب والمبررات ومن ثم فسواء تم الاتفاق أو أُستجلبت آليات من عدمه فإن العلة تُلحظ هناك على الجانب الجنوبي.
الاعتبار الثالث كان بوسع جوبا –طالما أدركت خطورة القرار السوداني– أن تقدم على الفور على الأفعال، لا أقوال، فقبل حضور مشار أو أيّ لقاء بين الطرفين كان بوسعها -إن لم يكن الأمر فيه ما فيه- أن تتخذ خطوات عملية بطرد الحركات المسلحة وإغلاق معسكراتها.
في الغالب فإن الطرف الذى يهمّه أن يتجاوز معضلة ما، يتخذ خطوات ايجابية ملموسة تقطع كل شك عن تماديه فيما يفعل وتتيح قدراً من الثقة لدى الطرف الآخر تجعله يصبح على إستعداد للحوار. كان على جوبا أن تعمل على تصحيح الوضع عملياً قبل أن تأتي لتطلب، فهي طرف مطلوب والطرف المطلوب عليه أن يعطي قبل أن يفكر فى أية مساومة.
الاعتبار الرابع أن نائب الرئيس الجنوبي ومهما كانت قدراته ودبلوماسيته فهو يعيش صراعاً ما مع رئيسه، وما بين الاثنين وعلى قدر ما ظهر على السطح الآن لا يوحي بأنهما على ما يُرام وهذا يجعل من مهمة مشار مهمة شاقة مُترصَدٌ لها فى جوبا فإن هو نجح فى إحداث اختراق، عرقله رئيسه بدافع الخصومة السياسية؛ وإن هو أخفق سقط فى الامتحان!
فى مثل هذه الظروف والمعطيات، تصبح أية محادثات معروفة النهايات وغير مجدية مهما بدت جادة ومثمرة، فالعبرة بالنجاح ومقداره مرتبط إرتباطاً كاملاً بموقف الرئيس فى جوبا.
وهكذا، فإن مجرد حديث جوبا عن إبتعاث نائب الرئيس الجنوبي لمناقشة الأمر فى الخرطوم كان فى حد ذاته إمعاناً في تأجيج الموقف وتعقيده أدركت ذلك جوبا أو لم تدركه. وبالطبع لن يكون عصياً على الخرطوم أن تفهم الخطوة فهمها الصحيح، ولكن فى العادة فإن الخرطوم حين اتخذت قرارها بقفل أنابيب الصادر النفطي فتحت من الجانب الآخر أية أبواب ونوافذ يمكن أن يدخل منها (الهواء النقيّ) الى الغرفة، ففي السياسة لا توجد طرق مغلقة، هناك دائماً طرق جانبية للطوارئ، ولكن هذا يتوقف على طبيعة هذا الهواء وقدرته على (تكييف) المناخ العام فى المنطقة بالقدر الكافي!

هل هو قرار استراتيجي أم تكتيكي؟

يخطئ بعض المراقبين فى تحليلهم للطريقة التى تتعامل بها جوبا مع الخرطوم وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بدعم المتمردين حين يوردون تبريرات أو ذرائع بعضها يشير الى وجود (متفلتين) فى كابينة القيادة الجنوبية وأنّ الرئيس الجنوبي غير قادر على السيطرة عليهم، وبعضها يشير الى أن الدعم ليس جنوبياً محضاً وإنما هو (دعم خارجي) ليست جوبا سوى (محطة نقل وسطى) فيه!
الأمر هنا لا يتعلق بهذا الجانب فهذا فى خاتمة المطاف يصنف بأنه شأن (داخلي) يخص الحكومة الجنوبية طالما أنها هي التى تجلس على عجلة القيادة وتدير الأمور حتى ولو كانت هذه السيطرة والإدارة ظاهرية. الأمر يتعلق باستحالة ارتضاء دولة بالمساس بسيادتها الوطنية وإيذاء أمنها القومي وتشكيل عنصر إقلاق دائم لها.
ومن المهم النظر الى هذا البعد الاستراتيجي البالغ الأهمية فى هذا الصدد، إذ أن قرار وقف ضخ النفط ليس سوى (قطرة) فى بحر من القرارات التى تعتزم الحكومة السودانية اتخاذها تباعاً كلما تمادت جوبا فى ارتكاب الأخطاء تجاه السودان. ومن المؤكد أن السودان يود أن يضع القادة الجنوبيين فى موضع الاختيار ما بين أكل الكيكة أو الاحتفاظ بها، لأن الخيارين لا يجتمعان لأحد قط، مهما دعم ظهره الداعمون وسانده المساندون من العصبة الدولي أولي القوة!
فالمصالح الجنوبية الحيوية لدى السودان مهولة تبدأ من(إبرة المخيط) و(الخيط نفسه) مروراً بالغذاء بكافة أنواعه، والأدوية بكافة أنواها، وكل الاحتياجات الحياتية اليومية التى من المستحيل على جوبا الحصول عليها من منافذ أخرى فالدولة الجنوبية دولة مغلقة لا منافذ لها، وحدودها مع السودان بمثابة الشريان الرئيسي  فى حياتها، وكان الاعتقاد أن القادة الجنوبيين ومهما بلغ بهم الشطط والغل لن يعبثوا بمصالحهم الإستراتيجية فى السودان.
من الأبعاد الإستراتيجية الأخرى للقرار السوداني محاولة إيقاظ بعض القوى المعارضة (الحالمة) بأن بوسعها إذا وصلت الى السلطة عن أي طريق فإن الليالي سوف تصفو بعد كدرتها وكل شي إذا ما تم ينقلب.
حاولت الحكومة السودانية بهذا القرار إيقاظ (الضمير الوطني) -إن وجد- فى قوى المعارضة السودانية لكي تدرك أن الأمر لا يتعلق بخلافات حكومات بين بلدين؛ هنالك بعد دولي فى الأمر وبالغ الخطورة ولعل المؤسف والمؤلم فى هذا الصدد أن قوى المعارضة ما تزال تجري حساباتها مراهنة على إسقاط النظام وقد طرق العدو الأكبر الأبواب!
ولعل من المهم أن نلاحظ هنا بشيء من التمعن العميق أن جوبا تتلاعب بقوى المعارضة السودانية بطريقة سمجة وفجة إذ كيف يمكن لعاقل وسياسي يتمتع بأدنى قدر من الذكاء أن يصدق أن ما تقوم به جوبا من دعم للمتمردين يصب فى صالح السودان؟
كيف يمكن لأذكياء وعباقرة القوى المعارضة أن يثقوا في أن الحلو وعقار وعرمان ليسوا سوى (ملائكة رحمة) يعملون ليل نهار ويخوضون الحروب ويتعرضون للنار مباشرة لخاطر ولصالح القوى السياسية المنتظرة بلهفة نصيبها من السلطة التى تعتقد أنها سوف تأتيها على طبق مصقول من ذهب؟
من الأبعاد الإستراتيجية الأخرى للموقف السوداني أن يعمل السودان على بناء اقتصاده الذاتي الخاص بعيداً عن (أجرة النقل) هذه التى جعلت منها جوبا وسيلتها المثلى للضغط على السودان ومحاولة إسقاطه اقتصادياً ثم الإجهاز عليه عن طريق المتمردين.
سعي السودان (للفكاك) من أجرة نقل النفط الجنوبي وتوفير بدائل أخرى هو عمل استراتيجي يتيح له أن يمضي فى نهضته بعيداً عن أدوات الضغط، وهذه من النقاط التى تسبب ألماً مبرحاً سواء لجوبا أو إسرائيل أو الولايات المتحدة فهي التى تخطط فى الخفاء لمثل هذه الخطط!

تراجع الولايات المتحدة عن زيارة د. نافع

بعض الناس يعتقدون أن أمريكا تؤثر علي سياسات الدول التي تسير في ركابها وهي التي تضغط على هذه الدول لتفعل ما تريده أمريكا وهذا صحيح ومعلوم بالضرورة ولكن غير المعلوم أن هذه الدول الصغيرة تجد فرصا لتملئ علي أمريكا ما تريد.
حكومة الولايات المتحدة الأمريكية هي من قدمت الدعوة لنائب رئيس حزب المؤتمر الوطني لزيارتها لإدارة نقاش حول العلاقات الأمريكية السودانية ومحاولة تطبيع هذه العلاقات لمصلحة البلدين فمثل ما للسودان من مصالح بأمريكا فلأمريكا مصالح في السودان إلا أن ما بينهما صعب على التجاوز فأمريكا تريد السودان تابعاً لها ينفذ سياساتها في العالم وهي بلا شك تعلم مكانة السودان الإستراتيجية وأهميته العالمية في المستقبل البعيد والقريب وهي تعلم إن مصالحها مع السودان أكبر من مصالحها مع كثير من الدول التي تتلقي منها الدعم السياسي والاقتصادي بلا مقابل لا في الحاضر ولا المستقبل.
من الجانب الآخر السودان قرر قرراً لا رجعة فيه أن يخرج من عباءة الدول الاستعمارية ويشق طريقاً صعباً يتجاوز فيه الهيمنة الأمريكية وان يتعامل مع الدول بالندية وزاد عناده بعد التجربة الطويلة مع الحصار الاقتصادي والسياسي والملاحقة من خلال مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية وغيرهما من أساليب الضغط مثل مناصرة أعداء السودان ومساعدة المتمردين عبر دولة الجنوب ولم يجد كل ذلك في تركيع دولة السودان لهذه الهيمنة والسيطرة والتحكم في إرادة الأمم والشعوب.
أرادت الولايات المتحدة الأمريكية إن تخرج من طريقتها التي لم تجد مع حكومة السودان إلى منهج الحوار فبادرت بدعوة مساعد رئيس الجمهورية ونائب الحزب الدكتور نافع علي نافع لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية وهو اختيار دقيق لأنه يمثل الحكومة والحزب خير تمثيل لكنها تراجعت وهذا يوضح انها تخضع أيضاً لضغوط من تلك الدول التي في فلكها تدور ونتيجة لضغوط من حكومة الجنوب أو غيرها من الحكومات التي تعلم إن تحسن العلاقات بين حكومة السودان والولايات المتحدة يلغي دورها ويقلل من أهميتها وتحس إن هذه العلاقة تنهي دورها  في المنطقة ومكانتها عند الدولة العظمي وغير دولة الجنوب هناك دول أخرى لا تريد لهذه العلاقة إن تطبع ولكل ذلك وقعت الولايات المتحدة تحت قهر هذه الدول ولم تجد مفراً من الاستجابة لهذه الضغوط فما كان منها إلا أن تلغي الدعوة للزيارة والتي خسرت فيها الكثير دبلوماسياً وسياسياً.
أما بالنسبة لحكومة السودان رغم حرصها علي تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة إلا أنها تسعي لهذا التطبيع في إطار الندية وتغليب المصالح المشتركة بين الدولتين ولن تتهافت علي تطبيع هذه العلاقات إلا بما يكفل لها هذه الندية لتبادل المصالح وفتح أفاق التعاون السياسي والاقتصادي وان أرادت الولايات المتحدة ان تنتظر حتى تنتصر الجبهة الثورية وإتباعها فإنها ستنتظر طويلاً بأذن الله.

الهدف الاستراتيجي من وراء القرار السوداني الأخير حيال جوبا!

لم تكن مخاوف الحكومة السودانية من أن يفضي انفصال جنوب السودان الى تسجيل الدولة العبرية لحضور دائم فى المنطقة مجرد مخاوف عابرة. كانت بالفعل مخاوف حقيقية إذ أن الدول –كما الأفراد– عادة ما تتخير الجيران و (الضيوف) الذين قد يحلّون لدى هؤلاء الجيران أو يقيموا بصفة دائمة ولكن كانت الحكومة السودانية ويشاركها فى ذلك العديد من النخب الوطنية والمواطنين السودانيين تراهن على أن القادة الحاكمين فى جوبا، ومهما بدوا معادين للسودان ومصالحه فهم كانوا سودانيين، والسودانيين لا يعرفون الخيانة والإيذاء والغل والتشفي.
كما أن الحكومة السودانية كانت تدرك أن من المستحيل حل أزمة جنوب السودان دون منحه حق تقرير مصيره فهذه قضية تاريخية عانى منها هذا البلد هذا طويلاً وكلفته الكثير من المال والرجال والشباب الغض.
التزام السودان بمنح الجنوب حقه فى تقرير مصيره كان أمراً لازماً وضرورياً لحل أزمة معقدة ولكن فى ذات الوقت كانت مخاوف السودان من أن تستهين الحركة الشعبية بعلاقات البلدين وتستعين بأعداء السودان من دول المنطقة وكدولة مصنوعة ووظيفة صنعت خصيصاً للقيام بأعمال قذرة هدفها الأول والأخير وقف تقدم الآخرين وإثارة الفتن والحروب والأزمات حتى تغطي على وجودها غير المشروع.
كما أن قادة الحركة الشعبية ليسوا من الذكاء والوطنية بحيث يوازنوا فى علاقاتهم بإسرائيل ما بين مصالحهم ومصالحها، ولهذا فإن البعد الاستراتيجي المهم فى القرار السوداني الذى قرر وقف مرور النفط الجنوبي لا يقف عند حد طريقة تعامل الدولتين وقضاياهما العالقة وليس هذا القرار محدوداً فى حدود إجبار جوبا على التخلي عن العبث بأمن واستقرار السودان.
البعد الاستراتيجي لهذا القرار يتمثل فى عدة نقاط بالغة الأهمية تأتي فى مقدمتها أن يخوض السودان -منذ الآن- حربه الطويلة الشاقة مع أعدائه الذين استجلبتهم جوبا لينفذوا خططه الإستراتيجية البعيدة المدى وهي خطط كما نعلم الهدف الأساسي المرجو منها هو الحصول على السودان كله بموارده ونفطه ومساحته وموقعه الاستراتيجي، عن طريق استخدام دولة الجنوب فى هذه الخطة.
ولعل حالة الوعي التى تنامت لدى كافة فئات الشعب السوداني زادت من قوة موقف الحكومة، فقد أدرك حتى أدنى السودانيين حظاً بالمعرفة العامة أن الأمر اكبر من مجرد خلافات سودانية جنوبية وأن جوبا لها أهداف أخرى هي أهداف قوى كبرى لم تجد أدنى وازع يمنعها من أن تخوض فيها وتصل فيها هذا المدى السحيق من الإيذاء المتعمد للدولة الأم.
النقطة الثانية أن السودان لفت أنظار جيرانه من العرب والأفارقة لمخاطر الدور الذى باتت تلعبه جوبا والذي من الممكن أن يطال دول المنطقة دولة إثر أخرى، فإسرائيل دون شك تحلم بدولتها الكبرى (من الفرات الى النيل) وهو حلم عمره يتجاوالـ70 عاماً، نفذت جزء منه عقب الاجتياح الأمريكي للعراق فى العام2003 وها هي الآن تسعى لتنفيذ الجزء الأخير بالعبث فى منابع ومصب النيل معاً!
من المهم أن يلفت السودان أنظار أصدقائه فى المنطقة لهذا الدور الخبيث الذى ما كان من الممكن أن تلعبه تل أبيب لولا تساهل وأريحية قادة الحركة الشعبية الذين - للأسف الشديد - لم يتعرفوا بعد على الدولة العبرية التى تفتك أول ما تفتك بحلفائها ومساعديها الصغار عاجلاً أم آجلاً.
النقطة الثالثة أن السودان عزم على نزع أي سلاح يمكن أن تهدده به جوبا سواء سلاح النفط أو سلاح زعزعة الأمن والاستقرار فهو الآن يقود مواجهة فاصلة وتاريخية إما أن تقوده الى حل العقدة نهائياً، بانتهاء إيواء جوبا للمتمردين ودعمهم -بضمانات إقليمية أو دولية- وإما أن تظل جوبا أسيرة لتعقيدات اقتصادية سوف تلحق أضراراً باقتصادها المنهك والمتداعي أصلاً.
وعلى ذلك فعند النظر الى الأمر من زاويته الإستراتيجية ينبغي النظر إليه من منطلق حل الأزمة حلاً جذرياً حيث لم تجدي كل المحاولات التي قامت بها الخرطوم لحلحلة الأزمة دبلوماسياً وبسياسة النفس الطويل والصبر والمثابرة.

العلاقات البريطانية السودانية على الطاولة

يشكر لمجلس دراسات المستقبل السوداني أنه يعني بفتح الأبواب للحوار حول المسائل والهموم الصعبة. فقبل أيام كانت استضافته لسفير الدولة الإثيوبية وفتح الحوار حول سد الألفية الذي أثار ويثير الكثير من الجدل في المنطقة، وبالتحديد في مصر والسودان.
وفي نهار الخميس الماضي كان السيد سفير المملكة المتحدة والعلاقات بين بلده وجمهورية السودان هما محط التفاعل والشد والجذب بين السيد السفير والنخبة السودانية التي أمت ذلك اللقاء ووجدتها فرصة لفتح الملفات، فالعلاقة بين البلدين ــ كما قال السفير ــ قديمة وتعنى الكثير بالنسبة للمملكة التي تعرف السودان أكثر من غيرها.. ولها دورها في (حلحلة) الأمور والمشكلات وليس تعقيدها والعودة إلى العقلية الاستعمارية!!
بتقدير السفير البريطاني ــ وهو رجل تاريخ قبل أن يكون دبلوماسياً ــ ان العالم قد تغير والعلاقة بين البلدين لا بد لها أن تواكب المتغيرات، وفي ضوء ذلك يمكن لهما أن يعملا معاً لمصلحة البلدين، وهذا لا خلاف عليه، ولكن ليس بالأماني وحدها يحيا الإنسان، إلا أنه ذكر من باب الانجاز أن بريطانيا تعني بالشؤون الانسانية في السودان وتساعد في لجان الحدود وتؤيد اتفاق التعاون بين جمهورية السودان ودولة الجنوب وتدين هجمات التمرد بلا تحفظ وساهمت في خدمات المياه والغذاء.. ودربت في مجال الصحافة والتعليم.
ذلك الاستهلال الناعم والخجول ــ ربما ــ فتح الباب للكثير من التعليقات والتصويبات الساخنة. ويتلخص ذلك في ما افتتح به الدكتور حسن عابدين والدكتور عوض حاج علي رؤاهما حول ما قال السيد السفير البريطاني وواقع العلاقة بين البلدين في عالم متغير يسيطر عليه الخمسة الكبار ودول الغرب ومصالحها على وجه الدقة والتحديد، فقد فقد العالم توازنه وسادت فيه القطبية الأحادية.
المملكة المتحدة يقول د. حسن عابدين وهي الحليف وثيق الصلة بالولايات المتحدة الامريكية، أسهمت بطريقة أو أخرى في ضرب مصنع الشفاء للدواء بالخرطوم بحري، وظلت تنسق مع القطب الامريكي وأعوانه وحلفائه في عمليات العقوبات والمقاطعة التي ظلت توجه للسودان ومازالت. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدكتور حسن عابدين هو السفير السوداني السابق في بريطانيا والباحث والأكاديمي المعروف وعليه ــ ورغم ذلك ــ ذكر المتحدث والحضور بأن يكون الحوار والحديث حول المستقبل وليس الماضي.
أما الدكتور عوض حاج علي وهو سياسي إسلامي وباحث معروف، فقد قال إن المملكة المتحدة تعرف السودان أكثر من السودانيين ولكنها لم تقدم حلاً لمشكلة دارفور.. ولا مشكلات وأزمات الحدود مع دولة الجنوب الوليدة، ومعروف ومعلوم ان المملكة المتحدة كانت تمسك بتلك الملفات لوقت طويل.
وعلى ذلك الطريق الناقد والناقض للسياسة والدبلوماسية البريطانية تجاه السودان في الظرف الراهن وهو يتعرض لأزمات الديون والعقوبات والمقاطعات مشى كثيرون ذلك النهار، ومنهم السفير عمر يوسف بريدو وهو سفير سابق في بريطانيا الذي قال إنه رغم التنمية واتفاق الدوحة الذي شكل قاعدة للسلام، والوضع الآن يختلف إجمالاً عما كان يروج له في الاعلام الخارجي، إلا أن الاهتمام بذلك مازال ضعيفاً. وهنا نسأل هل يغير السيد السفير البريطاني الجديد الذي لم يكمل عامه الأول بعد الصورة ويدفع بالعلاقات في الاتجاه الذي يخدم مصلحة البلدين. فالسيد السفير رغم اعترافه بأن هناك خلافات إلا أن بلده لا تجاري المقاطعة الاقتصادية، وقامت بما يمكن عمله في مسألة الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، في اشارة لما قدموه من خرائط، ويعتقد ان مشكل دارفور سوداني ويخص الحكومة السودانية.. وكرر القول على أن بريطانيا لا تساند العمل المسلح وتقوم ببعض المساعدات في المجال الإنساني والخدمي.
وكما دعا السيد سفير المملكة المتحدة وغيره في ذلك النهار إلى أن يتصل الحوار ويمتد، فإننا نعتقد أنها كانت فرصة لفتح الباب للتداول حول العلاقات التي ظلت جامدة ولا تدور إلا في فلك العولمة وما بعد انهيار المعسكر الشرقي، حيث حسب البعض أنهم أصبحوا أسياد العالم والأكثر إمساكاً بمفاصله.
إن تجربة السودان في العقدين الأخيرين التي تفجرت فيها بعض الموارد والممكنات الجاذبة، تقول بأنه يتعين بل يتوجب على كل طرف أن يعيد النظر في حساباته. والمعني هنا بذلك السودان والمملكة المتحدة اللذان يمكن لهما أن يعملا معاً لمصلحتهما، لاسيما أن قانون الاستثمار في السودان جيد كما قال السيد السفير البريطاني، إلا أنه يحتاج إلى التفعيل.
شكراً لمركز دراسات المستقبل الذي أتاح الفرصة لذلك الحوار الذي لم نستطع أن نكمله لارتباط آخر.. غير ان شيئاً خير من لا شيء!!

لماذا لا يلجأ السودان لمثل هذه الخيارات ضد جوبا؟

حينما نفى مدير المخابرات السوداني الفريق أول عطا المولى تورط السودان في ما راج من محاولة لاغتيال القيادي بالثورية مالك عقار لم يكن النفيّ هو الهدف الرئيس للرجل الأول فى جهاز المخابرات السودانية بقدر ما كان المقصد الأكبر إعادة تأكيد حقيقة سياسية عالية القيمة فى الأدب السياسي السوداني والتقاليد المرعية: أن الاغتيال السياسي ليس من مفردات القاموس السياسي فى السودان.
وليس هنالك من أدنى شك أن الحكومة السودانية لو فكرت -حتى مجرد التفكير فى أمر كهذا- وأرادت إنفاذه لفعلته بكل سهولة ويسر ولأراحت نفسها من الكثير من العناء، ليس فقط من اليوم ولكن منذ نشأت حركات التمرد وحمل السلاح.
ولعل هذه النقطة البالغة الأهمية تقودنا بالضرورة الى نقطة أكثر أهمية، إذ ربما يسأل أو يتساءل سائل عن سر إصرار السودان – طوال سنوات مضت – على مطالبة جوبا بالكف عن دعم متمردين سودانيين ومحاولاته المتكررة الدءوبة لاقتلاع هذا المسلك من الذهن الجنوبي.
إذ بإمكان السودان مستنداً على القانون الدولي القائم على فرضية ومبدأ المعاملة بالمثل كمبدأ راسخ قامت وما تزال تقوم عليه علاقات الدول وأصبح قاعدة معترف بها أن يتعامل بمبدأ المعاملة بالمثل، وأن يدعم هو الآخر متمردين جنوبيين يزعزعون أمن واستقرار دولة الجنوب، خاصة وأن الأمر فى هذه الحالة أكثر سهولة نظراً لحداثة الدولة وحداثة قادتها وهشاشة بنائها الوطني.
بل بإمكان السودان – وهو الدول الأكثر خبرة ودراية – وتعرف حكومته كل (شبر) فى الدولة الجنوبية أن يصبح (بعبعاً) أمنياً مخيفاً للقيادة الجنوبية، فالفارق شاسع بين الدولتين فى كل شيء، ولكن السودان لم يفعل.
هذا الموقف السوداني دون شك مرده الى حرص السودان على علاقات جوار وتبادل مصالح آمنة لصالح الشعبين. فالذي يزيد من حرص السودان على بناء علاقات  ثنائية جيدة هو رغبته فى تمتين علاقات شعبين كانا قبل عامين شعباً واحداً, من الممكن فى المستقبل القريب أو البعيد أن يعودا ليلتئم شملهما من جديد.
تجارب التاريخ القديم والمعاصر زاخرة بالتجارب المماثلة، لسنا فى حاجة لإعطاء نماذجها فقد حدث ذلك فى اليمن الشقيق وحدث فى ألمانيا ودول أوروبية عديدة.
الأمر الثاني أن السودان يعلم أن مسئوليته التاريخية حيال الدولة الجنوبية تجعله يضع اعتبارات ما من بد من وضعها وهي أن الحركة الشعبية التى تدير الشأن العام في الدولة الوليدة تدفع الآن فواتير مؤجلة باهظة بفوائدها جراء استنادها على قوى خارجية مثل إسرائيل فى سبيل إقامة دولتها والخروج عن الخارطة السودانية، مع أن الأمر لم يكن يقتضي ولا يساوي كل ذلك العناء.
وبطبيعة الحال – وهذه حقيقة راسخة فى الذهن السوداني – لن تكون الحركة الشعبية مهما تطاول بها الزمان فى السلطة هي الخيار الجنوبي الوحيد الذي سيظل حاكماً ومحكماً سيطرته على الأمور في جوبا. حقائق التاريخ تشير الى أن المتغيرات ستطال حتماً في يوم ما قادة اليوم المحاصرين بالدائنين السياسيين الباقون فى محبسهم السياسي الى حين السداد.
الأمر الثالث أن السودان يدرك أيضاً أن الدعم الذى تقدمه جوبا للمتمردين السودانيين -حتى ولو لم يكن من جيبها الخاص- فهو خصماً على تنمية ونهضة دولة الجنوب وهذا سيؤدي فى النهاية الى وقوع عبء اكبر على السودان بوجود جارة له تعيش حالة فشل تام وتعيش عالة عليه فى غذائها واحتياجاتها فى حين أن المتمردين المدعومين منها لا يحققون أدنى تقدم على الأرض، إذ ليس من المألوف فى السودان – بعكس طبيعة الدول الإفريقية الأخرى – أن تنجح عملية غزو قادمة من الخارج فى المساس بالدولة السودانية وإسقاطها. بل على العكس كلما زاد الدعم وجرت المحاولات واجهها السودانيون بقوة أكثر فإرتدت خاسئة.
وهكذا فإن جوبا تخسر وتشغل بال السودانيين بلا طائل وهو أمر فى غاية الغرابة ولا تعرفه ولم تعهده العلاقات الدولية!

خطأ أمريكي مزدوج!

أياً كانت أسباب وتقديرات واشنطن حيال قرارها بتعليق زيارة مساعد الرئيس السوداني إليها والتي يتفق غالب المراقبين أنها تأتي على خلفية الخلاف السوداني الجنوبي الأخير حين قررت الخرطوم وقف ضخ النفط الجنوبي حتى تكف جوبا عن دعم المتمردين السودانيين، فإن واشنطن ترتكب خطأً مزدوجاً، فهي رسخت بهذا المسلك وبما لا يدع مجالاً لأدني شك أنها مناصر دائم لجوبا مهما أخطأت الأخيرة وأجرمت، وهذا ما ينزع عن واشنطن أيّ فرصة للتوسط أو حتى الحصول على مصالحها التى ترعاها فى دولة الجنوب، لأن هذه المصالح –كأمر بديهي– لا يمكن أن تحصل عليها بمعزل عن حالة هدوء واستقرار كاملين بين الدولتين الجارتين.
وهي أيضاً من جهة ثانية فقدت إمكانية إنشاء علاقة جيدة مع الخرطوم فى وقت هي فى أمسّ الحاجة إليها وإن تظاهرت بشيء من عدم الاكتراث واللامبالاة.
حاجة واشنطن للخرطوم – التى تخفيها بعناية شديدة – تتمثل في حاجتها لوجود دولة جنوبية باقتصاد جيد أو على أقل تقدير خالية من الأزمات الغذائية والصحية غير المهددة بالأوبئة وحركات اللجوء والنزوح.
شفرة استقرار الدولة الجنوبية نصفها عند جوبا ونصفها الآخر عند الخرطوم، وكان بوسع واشنطن أن تحصل على (الشفرة الكاملة) لو أحسنت التعامل مع الطرفين. ومن المهم هنا أن نشير الى أن الخرطوم كما سبق لدكتور غازي صلاح الدين أن قال فى حضور المبعوث الأمريكي الخاص الأسبق -سكوت غرا يشون- عاشت ما يقارب الربع قرن بدون واشنطن فما الذي يضيرها لو عاشت مثلها مرة أخرى؟
إن مجرد حرص الخرطوم على علاقات جيدة وطبيعية مع واشنطن لا يعني أن واشنطن بالنسبة للخرطوم (أسطوانة أوكسجين) ولكن حرص الخرطوم إنما هو من قبيل ترسيخ أقدامها فى كل المحافل الدولية شأنها شأن أي دولة تدير مصالحها الدولية في النادي الدولي العريض.
ولو كانت الخرطوم تسعى للتطبيع مع واشنطن (بأي ثمن) و (بلهفة شديدة) لكان سهلاً عليها قبول كل أملاءاتها حيال تحسين العلاقة مع جوبا وقبول اشتراطاتها وتجاوزها لكل أخطاء جوبا، ولهذا فإن من الخطأ بمكان الاعتقاد أن (منتهى أمل) الخرطوم هو أن تحصل على علاقات طبيعية مع واشنطن وأنها فى سبيل ذلك مستعدة لفعل أي شيء. ولعل من المعروف أن واشنطن التى يحكم القرار السياسي فيها مجموعات ضغط مثل أنقذوا دارفور وبعض الجماعات واللوبيهات اليهودية لن يكون بوسعها لا على المدى القريب ولا على المدى البعيد أن تقرر تطبيع علاقاتها مع الخرطوم.
فكل الذي يجري إن هي إلا مجرد تلويحات بالحلوى هدفها -فيما يبدو- جعل الخرطوم تلين الى حد التلاشي لجوبا فى كل ما تطلبه. ولعل مما يؤسف له غاية الأسف فى هذا الصدد أن بعض الفُرقاء السياسيين فى صفوف المعارضة واتتهم غبطة غامرة جراء تراجع واشنطن عن دعوتها للدكتور نافع، مع أن الدعوة جاءت من واشنطن وبدون طلب من الخرطوم وبالطبع من حق صاحب الدعوة -حتى ودون ذكر أسباب- أن يسحب دعوته متى شاء؛ ولكن بالمقابل فإن من غير المتصور أن الموجهة إليه الدعوة سوف يعاود الاستجابة إذا ما أُعيدت الدعوة مرة أخرى، ففي هذه الحالة فإن من حقه أيضاً أن يقرر أن يدرس الأمر قبولاً أو رفضاً.
ولهذا فإن واشنطن فى الواقع وضعت نفسها فى زاوية حرجة بقرارها هذا، فهي ستفكر طويلاً قبل أن تعيد تقديم الدعوة من جديد لأنّ الخرطوم قد ترفضها أو على الأقل تقرر أن الوقت غير مناسب، وبهذا تكون واشنطن قد تلقت صفعة سياسية على خدها الأيمن، وهي أيضاً إذا صرفت النظر تماماً عن الدعوة لا تستطيع عملياً الاستمتاع بمصالحها فى دولة جنوب السودان وهناك توتر بين الدولتين وباستطاعة الخرطوم فى أي لحظة ومتى ما رأت أن جوبا عادت للعبث بأمنها، أن تغلق أنبوب النفط.
لقد كان الصحيح أن تمضي واشنطن قدماً فى تفاهماتها مع الخرطوم على الأقل لتجسير الهوة الآخذة فى الاتساع بين الدولتين، جوبا والخرطوم، وهذا كان يتيح لها لعب دور وسيط حتى ولو كانت وساطة غير نزيهة ولكن ماذا نقول حيال دولة عظمى (من حيث الشكل) فارغة المحتوى (من حيث المضمون)!

الأربعاء، 19 يونيو 2013

قوى التحالف.. البقاء فى سجن الثورية لحين السداد!

حتى الآن لم تدرك قوى المعارضة السودانية المعروفة بقوى الإجماع خطورة ارتباطها بما يسمى بالجبهة الثورية، ففي الأسبوع الماضي، وبعد كل الكوارث التى خلفتها الثورية باحتلالها لأبو كرشولا وبعد كل الفظائع التى اقشعر لها بدن كل سوداني مهما كان موقفه من الحكومة، فإن قوى المعارضة عادت - وبإصرار العزة بالإثم- لتؤكد بقاء رباطها المقدس مع الثورية!
مسئول الإعلام فى التحالف كمال  عمر أعاد التأكيد على بقاء هذا الرباط واستمراره، مع أن الثورية بهزيمتها الداوية وخسائرها الفادحة فى العتاد والرجال ربما احتاجت عقوداً طويلة لكي تظهر مجدداً للوجود مرة أخرى، إلا أن استمرارها والمجاهرة بهذا الارتباط من جانب قوى سياسية تعمل فى هامش سياسي ديمقراطي جيد وأمامها فرصاً شتى لحل أزمتها عبر صناديق الاقتراع -إن أحسنت التحالفات وأجادت المناورات السياسية، وتصالحت -سياسياً- مع خصمها الوطني يشي بمخاطر جمة على السودان وذلك من عدة أوجه.
فمن جهة أولى فإن استمرار هذا الارتباط معناه أن هذه القوى المعارضة خاوية الوفاض من القواعد والجماهير ولا سبيل لها لبلوغ السلطة إلا باعتلاء ظهر مجموعة مسلحة.
قوى التحالف يئست من مستقبلها السياسي تماماً وأدركت أن هناك استحالة في مقارعة الوطني فى ميدان الانتخابات ودائماً فى مثل هذه الحالات فإن القوى المسلحة سرعان ما ينتابها وهم إمكانية تحقيق هدفها والأكثر سوءً أن هذه القوى المسلحة -إذا تحقق لها ما تريد- فلن تدع أحداً كائناً من كان يقاسمها ما حصلت عليه بعرق جبينها وبإمكان قادة هذه القوى أن يراجعوا عمليات الذبح والإعدامات التى جرت فى أبو كرشولا، فقد تبين أنها كانت منتقاة بعناية بحيث تمثل لها (رؤية إثنية) واضحة لا لبس فيها ولا غموض وليس أدل على ذلك ايضاً من أنها نجحت قبل بداية هجومها ومشروعها الكبير فى جر هذه القوى المعارضة الى التوقع على (ميثاق الفجر الجديد) كتذكرة ضرورية لما سيجري لاحقاً دون أن يجد رفضاً من هذه القوى.
ومن وجه ثاني فإن من الغريب حقاً أن تفضِّل قوى سياسية تعمل فى الميدان السياسي الوقوف الى جانب قوة مسلحة مدعومة من الخارج لا يُعرَف كيف سيكون تعاملها مستقبلاً على قوة حاكمة دعتها للحوار لكتابة الدستور وللعمل معاً من أجل بناء الدولة!
أمر غريب أن تفضل قوى سياسية تعتقد أنها لديها جماهير العمل المسلح والفوضى والتخريب على العمل السياسي المفضي الى إصلاحات واستقرار وترسيخ الممارسة الديمقراطية!
اغلب الظن أن هذا الموقف نابع من (ثأرات سياسية) قديمة، كما أنه ينم عن استعجال فى الوصول الى كرسي الحكم ظناً منها أن الوصول الى الكرسي سوف يفيض على البلاد ديمقراطية ويستمنستر، و ينصلح الاقتصاد و ينصلح كل شيء فى دقائق!
هذا التصور -فى حد ذاته- يكشف عن جهل فاضح بحقائق قضايا السودان، فالكل يجمع الآن أن الحرية والديمقراطية المتوفرة فى السودان لا وجود لها فى دول الجوار العربي والإفريقي وهاهو الوضع فى دولة جنوب السودان الوليدة أمام ناظري المعارضة، وتلك هي الأحوال فى قاهرة المعز تغني عن السؤال، بل حتى دول الربيع العربي -تونس وليبيا ومصر- دخلت فى أوحال ومستنقعات سياسية، رهيبة الكل ينظر إليها وهو واجم لدرجة أن السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة حاول التوسط فى جمهورية مصر العربية بين السلطة الحاكمة المنتخبة ومعارضتها.
ومن جهة ثالثة فإن معنى استمرار ارتباط قوى التحالف بالثورية إقرار هذه القوى السياسية -علناً- بأعمال القتل والعنف وترويع المدنيين وهذا معناه بالضرورة أن هذه القوى ليست مؤمنة بقضايا السلام وحقوق الإنسان والاستقرار، هي فقط تناور بها فى مواجهة النظام الحاكم لأغراض سياسية ولكنها لا تؤمن بها قط، لأنها لو كانت تؤمن بها لأدانتها إدانة صريحة غض النظر عن من ارتكبها، فالمواقف المبدئية لا تتجزأ ولا تخضع للأهواء والأمزجة.
ومن وجه رابع وأخير، فإن استمرار هذا الارتباط يعني ايضاً استمرار المشاركة فى أي جرائم ارتكبت أو سترتكب فى المستقبل وهذه أمور لن يغفرها التاريخ لهؤلاء القادة السياسيين الذين يرتكبون جرائم بحق بني جلدتهم (وهم خارج السلطة) فى حين أنهم ينتقدون دفاع السلطة عن مواطنيها ويعتبرونه (جرائم حربية)!
إن المستخلص من هذا الارتباط الذي لم تجد قوى المعارضة القوة للانسحاب منه أنها تورطت فيه تماماً وهي خائفة من الخروج عنه، فقد وضعت كل البيض هناك فى (سلة الثورية) وارتضت تغيير السلطة الحاكمة عن طريق القوة ومن المؤكد أن الخروج يكلفها ثمناً باهظاً تخشى أن تُحبس لحين سداده!

الثلاثاء، 18 يونيو 2013

كل النفط الجنوبي مقابل قطرة دم سودانية واحدة!

ربما تعددت الشروح والتفسيرات السياسية بأن (الهدف النهائي) والعبرة السياسية الإستراتيجية التى تسعى وراءها جوبا بكل هذا العناد والإصرار فى دعمها المتواصل لمتمردين سودانيين للدرجة التى ظل هذا الفعل يوصلها -مراراً- الى منصة الإعدام موثقة اليدين، ليس بينها وبين الغرفة المظلمة تحت المنصة سوى لحظات وبضع سنتمترات! وهي تفسيرات وشروح مهما كثرت وتعددت بل وتباينت لن يكون من السهل إيجاد أدنى جانب منطقي فيها.
هنالك الكثير من الدول التى تلعب هذه اللعبة (الخطرة) مع دول أخرى، وهناك الكثير من الحكومات تفعل ذلك بحسابات وتقديرات خاصة جداً ولكن ما من دولة تتمتع قيادتها (بالحد الأدنى من الإدراك) تلعب لعبة كهذه بهذا المستوى الضخم مع علمها أن قصبتها الهوائية تقع مباشرة تحت أصبع الطرف المجني عليه!
لعل اقرب تفسير -مع أنه غير منطقي- أن جوبا مكرهة وليست بطلة! أي أنها تفعل ذلك تحت إملاء جهة دولية أخرى لا تتأثر بالمذاق المرّ للاقتصاد الجنوبي المتهاوي ولا تهتم بما إذا كانت النخبة الحالية الحاكمة ستستمر في الحكم فى جوبا أم تتغير بأخرى.
هي جهة تهدف -ضمن هدف كبيرة وأشمل- للإضرار بالسودان لأقصى حد ممكن تمهيداً لخطة كبيرة لتقسيمه وتقزيمه فى ذات الوقت. ولعل من المفروغ منه هنا أن إحدى ابرز مخاوف الكثير من السودانيين – وفي مقدمتهم المسئولين الكبار – أن منح دولة الجنوب حق تقرير المصير وما قد يفضي إليه من انفصال سيحمل الدول العبرية -على طبق من ذهب- الى الأحباس العليا للنيل وسيجلب الـ"شين بيت"، والموساد للنافذة السودانية الخلفية.
كانت هذه المخاوف سائدة قبل تقرير مصير الجنوب ولكن –مع كل ذلك– صاحب هذه المخاوف تحليل معقول مفاده أن القادة الجنوبيين لن يكونوا بمثل هذه الليونة للدرجة التى يقعون فيها تحت (وصاية إسرائيلية أمريكية مباشرة).
هناك عشرات الدول الإفريقية الواقعة، بل والغارقة الى أذنيها فى عجين الدولة العبرية ومكرها ودهائها لا تستطيع منها فكاكاً ولكن مع كل ذلك فإن هناك (خطوط واضحة) رغم هذه الوصاية لا يتم المساس بها، بل إن إسرائيل نفسها كدولة مصنوعة وغير  مشروعة فى المنطقة تعرف بحكم الخبرة السياسية الطويلة فى المنطقة والممتدة لأكثر من نصف قرن أن هناك (خطوطاً بالغة الحساسية) وأسلاك ضغط عالي ما ينبغي العبث قربها.
إسرائيل هذه التى تحيك ثياب جوبا السياسية وتطرزها بالألوان التى تريدها نجت بالكاد من براثن وأظافر حزب الله فى لبنان، وكتائب حماس والجهاد الإسلامي فى غزة. نجت بعد أن كانت تعتقد أنها تقوم بنزهة مسائية عادية وهي الآن تدفع جوبا لمأزق سياسي واقتصادي هي نفسها تعلم ألا حل له، إذ ليس حلاً أن تدفع واشنطن والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة أموالاً لدولة الجنوب لتعويض فاقد عائدات النفط!
المواطنين الجنوبيين إذا كانوا قد صبروا فى التجربة الأولى التى امتدت لـ15 شهراً وذاقوا خلالها الأمرّين وجاملوا قادتهم حين قرروا وقف ضخ النفط، فليس بإمكانهم هذه المرة احتمال ذات المواجع الاقتصادية لأسباب أكثر سوءاً، ففي المرة الأولي حين أوقفت جوبا ضخ نفطها تذرعت بأن الخرطوم تطالبها برسوم عبور فوق طاقتها، أما هذه المرة فإن قرار الخرطوم بوقف ضخ النفط ناجم عن ضيق الخرطوم ونفاذ صبرها من الدعم المتواصل للمتمردين السودانيين!
وباستطاعة أي موطن جنوبي بسيط أن يعي القضية ويدرك أبعادها فبلاده مخطئة فى حق السودان خطأً لا يمكن تبريره ولا يمكن للدولة الأم التى خرجت من رحمها الدولة الجنوبية أن تحتمِل هذا المساس بالكرامة والسيادة لمجرد قطرات نفط، لا تساوي شيئاً على الإطلاق إذا تم وزنها بقطرات دماء المواطنين السودانيين الذين تعبث بهم حكومة جوبا باستهتار منقطع النظير!

كيري يكشف بإيجاز خطة تقسيم السودان!

لم يكن تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بشأن الحرب الدائرة فى جنوب كردفان ووصفه لها بأنها دينية أمراً منطقياً. وهذا شيء مفروغ منه وربما كان الوزير -وهو يدلي بهذا التصريح البالغ الغرابة- يعلم في قرارة نفسه انه لا يعني شيئاً مما يقول!
ولكن بالمقابل فإن الرجل وبهذا التصريح الموجز، أوجز طبيعة نظرة واشنطن ورؤاها حيال ما يدور فى السودان وربما قصد الرجل التمهيد لعمل استراتيجي أمريكي مهول فى السودان فى المرحلة المقبلة خاصة إذا ما قرنّا تصريحه هذا بنقل السيدة رايس من نيويورك الى البيت الأبيض مستشارة للأمن القومي.
عبارة حرب دينية دون شك عبارة تجد حساسية بالغة فى الأذن الأمريكي وجماعات الضغط والسود بصفة خاصة، ثم على نطاق الدول الأوربية وبقية دول العالم بصفة عامة.
ولا حاجة لنا بطبيعة الحال لتنفيد تصريحات كيري هذه والرد عليها إذ يكفي فقط أن نشير الى أن قادة الثورية (عرمان والحلو عقار) وهم فى ذات الوقت قادة قطاع الشمال مضافاً إليهم قادة الحركات الدارفورية المسلحة جميعهم يعتنقون الديانة الإسلامية وليس من بينهم غير المسلم.
وبالطبع لا يمكن لعاقل أن يتصور أن يقوم قادة مسلمين بشنّ حرب (دينية) ضد بلد بأكمله فيه مسلمين وغير مسلمين، يقاتلونهم فقط من أجل الانتصار لغير المسلمين!
كما لا يتصور عقلاً –مع إفتراض وجود غير المسلمين فى جنوب كردفان– أن يكون هؤلاء القادة الذين يشنون الحرب وكلاء عن أهل جنوب كردفان غير المسلمين! وحتى ولو تصورنا ذلك فكيف يمكن إطلاق صفة حرب دينية على حرب كهذه؟ بل إن الأغرب من كل ذلك أنه حتى الحرب التى كانت تشنّها الحركة الشعبية بقيادة قائدها الراحل قرنق لم تصنف بأنها دينية بدليل أن قرنق نفسه – وعلى طريقته الخاصة – استقطب بعض غير الجنوبيين المنتمين إلى الديانة الإسلامية من شمال السودان أمثال عرمان والحلو وتلفون كوكو وعقار فى حركته! ذلك على الرغم من أن الجميع كان ولا يزال يقرّ بوجود تباين واضح بين شمال السودان وجنوبه ثقافياً وإثنياً.
إن هدف ما قاله كيري يتمثل في مؤشرات عدة خطيرة. أولها نية واشنطن إعادة تدوير الأزمة السودانية لاستخلاص جنوب سوداني جديد تمهيداً لفصله.
هذه النقطة جوهرية وإستراتيجية لم يعد فيها أدنى شك، فالهزائم التى توالت على الثورية رغم الدعم الجنوبي والأمريكي المتواصل وشدة صلابة الدولة السودانية رغم كل هذه المحاولات جعلت واشنطن تعود الى الخطة (ب) لتبدأ بحديث عن الحساسية الدينية وضرورة تقرير مصير الأقاليم السودانية وهي حلقة فى مسلسل لتقسيم السودان وتقطيعه إرباً.
ثانيهما أن واشنطن بدأت بتهيئة الرأي العام العالمي فيما تعتزم القيام به فى السودان، من عمليات عسكرية إرباكية وهجمات متواصلة لإنهاكه عسكرياً وإقتصادياً ليصبح سهل التقطيع عقب كسر عظامه.
ليس الهدف هنا إسقاط الحكومة السودانية فحسب ولا لأنّ الحكومة السودانية تقودها نخبة إسلامية، الهدف هو استغلال الطابع الأيدلوجي للسلطة الحاكمة – عبر تأجيج عاطفة دينية – لتدمير الدولة السودانية نفسها وتفكيكها لأقاليم ولهذا تبرع واشنطن فى لعبة التلويح بالعصا والجزرة مع الخرطوم، وتتظاهر أحياناً بضجرها من المتمردين وتحثهم على التفاوض، وتدعو جوبا فى أحيان أخرى بترك دعمها للمتمردين.
وهكذا سلسلة من العمليات الإرباكية المحسوبة بغية كسر عظم الدولة السودانية طالما تسنّى وبسهوله نزع إقليم كبير منها وهو الجنوب؛ فلِمَ لا تجري تجربة نزع أقاليم أخرى بطريقة أخرى مبتكرة؟

واشنطن وسياسة عود الثقاب فى العلاقات السودانية الجنوبية!

ليس من السهل أن نتصور علاقات جنوبية سودانية دون أن يكون فى خلفية الصورة -إن لم يكن فى مقدمتها- الولايات المتحدة الأمريكية ولهذا فحين ساءت علاقات الدولتين –جوبا و الخرطوم– بفعل إصرار جوبا على دعم المتمردين الناشطين عسكرياً ضد السودان وعدم تقيدها بإنفاذ الاتفاقات والمصفوفة الموقعة بين البلدين منذ أشهر، فإن واشنطن كانت لا محالة هناك.
ولكي نقرأ الصورة بشكل جيد فلنبدأ من آخر المشاهد التى بدت للعيان حيث حفل الأسبوع الماضي بخبر يشير الى صفقة أمريكية وصفت بأنها ضخمة فى مجال النفط بالجنوب! الخبر ورد على لسان سفيرة واشنطن فى جوبا (سوزان بيج).
هذا الخبر فى مظهره العام ربما بدا طبيعياً ففي العادة فإن (رائحة النفط) هي الأكثر اجتذاباً للأنف الأمريكي فى أي رقعة من العالم ولكن توقيت الخبر وطريقة إطلاقه من جوبا فى ظل مناخ التوتر السائد بين جوبا والخرطوم حمل دلالات واضحة كشفت مجمل إستراتيجية واشنطن حيال علاقات الدولتين.
فمما لا شك فيه أن الخبر شكل دعماً سياسياً لجوبا فى وقت توعد فيه السودان جوبا بوقف مرور النفط نهائياً، بل وإنهاء كافة الاتفاقات المبرمة بين البلدين إذا استمرت فى دعم المتمردين والتقاعس عن إنفاذ المصفوفة الأمنية.
الدعم الأمريكي لجوبا ضد تهديدات الخرطوم جاء في توقيت مريب فقد رأت واشنطن وسمعت بأذنيها الاثنتين أن جوبا أقرت بدعمها لمتمردين سودانيين ناشطين ضد الخرطوم وترتب على هذا الدعم هجوم سافر ومريع - مليء بالفظائع - ارتكبه المتمردون فى أبو كرشولا بجنوب كردفان.
لقد بدا واضحاً أن واشنطن تدعم جوبا فى دعم الأخيرة لمتمردين سودانيين وتطمئنها على أن الأمر لن يصل الى مجلس الأمن، بل بدا وكأن واشنطن تحفز جوبا على فعل ما تفعله دون أن تخشى شيئاً فللنفط  الجنوبي شركات أمريكية ستتكفل بها.
من جانب ثاني فإن واشنطن أحدثت نقلة سياسية داخلية فى بيتها الداخلي سيذهب ريعها وخراجها كله الى جوبا فقد أقر الرئيس أوباما تعيين (سوزان رايس) مندوبة واشنطن فى مجلس الأمن، مستشارة للأمن القومي وهي نقلة بكل المقاييس تهدف الى إيلاء الشأن الجنوبي السوداني -بحكم اهتمامات رايس المعروفة بهذا الملف- أهمية قصوى فى المرحلة المقبلة، فالعداء السافر - المتجاوز لقواعد العلاقات الدولية، والعمل الدءوب لإلحاق الأضرار بالسودان، هو عمل لم يبرع فيه مسئول أمريكي كما برعت فيه رايس حتى لما كانت مجرد مندوبة أو سفيرة فى الأمم المتحدة فما بالك وقد أصبحت (شيف) داخل المطبخ الرئاسي الأكبر فى البيت الأبيض؟
ومن جانب ثالث فإن واشنطن خادعت السودان ولا نقول (حاولت التلاعب به) حين لوحت له بزيارة لمسئول رفيع إليها والتباحث مع كبار مسئوليها فى واشنطن وهو الدكتور نافع على نافع مساعد الرئيس السوداني.
لقد كان الاعتقاد لدي العديد من المراقبين أن الزيارة المرتقبة هدفها تحسين علاقات البلدين ومن المحتم إذا حدث ذلك أو حتى بدأ يحدث فسوف ينعكس إيجاباً على علاقات جوبا والخرطوم، ولكن بدأ هذا الأمل فى التبخر حين ثبت تماماً أن واشنطن تدعم جوبا فى عبثها بالأمن والاستقرار فى السودان.
من جانب رابع فإن إطلاق تصريحات – المرة تلو الأخرى – وبحسابات معينة من قبل مسئولين أمريكيين تحث المتمردين – سواء في دارفور أو جنوب كردفان – لترك السلاح والاتجاه للتفاوض، ثبت أنها هي الأخرى مجرد عمليات تمويهية لأغراض كسب المزيد من الوقت.
الآن يمكن تلخيص الأمر فى عبارات قصيرة للغاية؛ واشنطن عازمة على أن تظل علاقات جوبا والخرطوم متأرجحة وأن يظل المتمردين السودانيين عصى حاضرة دائماً ضد الخرطوم، وأنه كلما أوشكت علاقات جوبا مع الخرطوم على أن تغوص عميقاً فى الرمل، مدت واشنطن يدها للمساعدة ولكن هي مساعدة لا تهدف الى الإنقاذ الكامل؛ مجرد محاولة للإبقاء على جزء من الروح وهي تنبض لا أكثر ولا أقل!

جوبا/الخرطوم ..أزمة صك سياسي مرتد!

مهما كان مطلوباً من السودان أن يمد حبال صبره وأن يتوسل بطول النفس السياسي، وأن يظل مستمسكاً بالشعرة الرفيعة مع دولة جنوب السودان، فإنه من المستحيل تماماً –أياً كانت الحسابات– أن يتذرع السودان بالمزيد من الصبر، أو أن يظل ميدان الرماية الجنوبي الدائم.
لقد تحمل السودان -كدولة- فوق ما يطاق من القادة الجنوبيين منذ أن وطئت أقدامهم قصور الحكم الفارهة فى جوبا. جرت عملية تشريد وتهجير منهجية واسعة النطاق للمواطنين السودانيين المقيمين هناك منذ عقود طويلة.
وهي عملية قابلها السودان -لتقديرات معينة- بالسعي لإقرار الحريات الأربعة ومن بينها حرية التنقل والإقامة والتملك لإدراكه أن الأثر السالب للانفصال ما ينبغي أن يلقي بثقله على المواطنين فى الدولتين فقد كانوا شعباً واحداً.
جرت عشرات العمليات الهجومية بدعم جنوبي على كردفان ودارفور والنيل الأزرق منذ العام 2011 وحتى الآن، كانت آخرها عملية أبو كرشولا وأم روابة وسقط آلاف الضحايا وشرد عشرات الآلاف.
جرت عملية هجوم غادر ومؤسف غاية الأسف على منطقة هجليج دون أدنى مبررات وطالت عملية الهجوم المنشآت النفطية وتكبد جراءها السودان خسائر بملايين الدولارات.
أنشأت جوبا أكثر من 22 معسكراً فى مدن وأنحاء عديدة ومختلفة فى الجنوب لتدريب وتسليح القوى المتمردة الناشطة ضد الخرطوم وما تزال - وستظل - هذه المعسكرات فاعلة ومفتوحة.
هذه التصرفات ألحقت وما تزل تلحق بالدولة السودانية أضراراً بالغة ففضلاً عن إعاقة مسيرتها فهي تقطع من قوت مواطنيها وتعرقل مسيرة حياتهم اليومية. وبالطبع لن يصدق أحد –مع أن الكل رأى وسمع وشهد– أن الدولة السودانية بكاملها وليست الحكومة وحدها تعاملت بأريحية تفوق الخيال حيال هذه الخروقات فى الوقت الذى فيه لولا أريحية هذه الدولة لما حصل المواطنين الجنوبيين قط على دولة مستقلة قائمة بذاتها.
لو أن السودان تمسك بتمام كافة عمليات الانسحاب وإنفاذ كافة بنود الترتيبات الأمنية وأصرّ على قيام استفتاء (نزيه) ودقيق لما كان الحال كما هو اليوم فالجنوب لم يكن مستعمراً سودانياً وإنما كان جزء لا يتجزأ من دولة ورثت منذ أكثر من نصف قرن هكذا، وحين بدا أن الحل الأمثل لوضع حد للنزاع الدامي الدائر هو تقرير مصيره ومنحه الفرصة كاملة لاختيار ما يري من وحدة أو انفصال، لم يتردد السودان في منح الجنوبيين هذه الفرصة.
كل هذا يمكن اعتباره سطوراً مضت من تاريخ لن يعود ولن يكون بالإمكان استعادة ما قبله، ولكن السؤال يظل قائماً لماذا تصرّ جوبا كل هذا الإصرار على شغل نفسها تماماً بالسودان، تثير ضده الحروب والأزمات، وتعرقل مسيرته، وتعبث بأمنه وتحاول إفساد اقتصاده؟
إن الأمر لو كان يتعلق بكراهيتها المقيتة للسلطة الحاكمة فهي شأن سوداني داخلي ليس له أدنى حق فيه. وإذا كان الأمر مرده الى تراكمات تاريخية آلمت القادة الجنوبيين فبإمكانهم أن يجدوا متنفساً لهم بمحاولة التقدم وتجاوز السودان سياسياً واقتصادياً وثقافياً فالحكومات الوطنية الحقيقية إنما تحقق ذاتها من خلال تحقيقها لنهضة وطنية شاملة تتفوق بها على من تعتبرهم أعدائها.
أما إن كانت جوبا مرتبطة رباطاً محكماً بقوى خارجية أعانتها على الانفصال وقيام الدولة وتسدد لها الآن فاتورة الحساب، فإن الفاتورة السودانية غالبة للغاية، ورصيد جوبا لا يغطي 1% من شيك السودان المستحق!
فلتفكر جوبا في مرحلة ما بعد إرتداد الصك الذي حرّرته للقوى الدولية ومن أين  ستسدد هذا الصك؟

قوى التحالف والـ100 يوم.. عدة المتوفية عنها جبهتها!

لا شك أن مقولة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي فى حق زملائه فى قوى التحالف المعارض والتقى قال فيها -بمرارة وسخرية- إن التحالف كثيراً ما يجلب مواقفاً مضحكة على نفسه، وهي مقولة صحيحة مائة بالمائة وبطول وعرض برنامج المائة يوم المعلن إعلامياً على الملأ!
وقد سبق للمهدي أن شكا مُرّ الشكوى من تصرفات زملائه في قيادة التحالف فى إتخاذهم لمواقف وتعبيرهم عن آمال وتطلعات تجلب عليهم السخرية والهزء وهي فيما يبدو واحدة من أهم عناصر مبارحة الرجل أو قرب مبارحته عملياً للتحالف الذى خسر فيه بأكثر مما ربح! مع أن التحالف قام أساساً (كمؤسسة سياسية ربحية) هدفها جنيّ أرباح سياسية باستطاعتهم القيام بعملية (هدم البناء) وإزالة الأنقاض وتسليم الأرض لمجلس إدارة التحالف ليدير الأمور هو بعد ذلك.
لقد كانت آخر مضحكات ومبكيات قوى التحالف إعلانها عن ما أسمته برنامج الـ100 يوم لإسقاط النظام الحاكم! بدءً، ما من شك أن البرنامج (المكشوف عنه) قد جرى إعداده بصفة سرية، ومن المؤكد أن تحالف المعارضة لم يفصح عنه وعن محتواه إلا بعد أن أرغمه الوطني –بعد الكشف عن البرنامج– على (إفراغ ما جوفه)!
وهذه النقطة وقبل أن نتمعن في تفاصيل البرنامج يجب على قادة التحالف (الأذكياء) أن يقفوا طويلاً ويتمعنوا فيها إذ من المؤكد أن التحالف يلبس (جبة مرقعة) وبعض هذه الرقع مصنوعة من (الخيش) والخيش نفسه شديد النعومة وفى الوقت نفسه يتمتع بمسام جيدة وقادرة على (إدخال الهواء) أو نشر رائحة العرق!
ذكاء قوى التحالف بشأن اجتماعاته وقراراته وخططه فى حاجة الى تأمل طويل، فهو لا يعمل فى كوكب المريخ، كما أن الخطط والبرامج (السرية) التى يضعها قادة سياسيين بعضهم تجبره (عاداته الخاصة) على ترك العنان لجنانه ولسانه لكي يقول ويفعل ما يحلو له، خاصة فى الليالي الداجيات؛ وبعضهم الآخر لا يصبر على السرية إذا ما غشي مجلساً، أو إنتقاه صحفياً فى حوار ما.
مثل هذه الخطط (السرية) لا يصعب الكشف عنها، فلا هي تحتاج الى (موجات صوتية) ولا صور أشعة، هي خطط مثل الأمراض الجلدية ظاهرة للعيان ماثلة لأي طبيب اختصاصي أو مبتدئ.
من جانب ثاني فإن برنامج يتم إعداده بحاجز زمني لا يتجاوز المائة يوم (فقط 3 أشهر) هو دون شك يثير الضحك لأن الأمر هنا لا يتعلق (بفصل سياسي) أو دراسة فصلية مسائية؛ الأمر هنا يتعلق بعمل سياسي لإسقاط حكومة، ولن يكون فى وسع أي من عباقرة التحالف -وهم كثر- أن يشرح لأي مراقب لديه قابلية كبيرة للصبر والإصغاء الصامت الخالي من الأسئلة كيف سيتم إسقاط حكومة ببرنامج فى حدود 100 يوم فقط فى الوقت الذى فيه قضت قوى المعارضة نفسها أكثر من 20 عاماً وهي غير قادرة على إعداد برنامج تحالف، وهيكلة التحالف وجعله على الأقل (شيئاً محترماً)!
من جانب ثالث -وهذا هو الأغراب والأعجب في البرنامج- أن البرنامج يتضمن (ضيوفاً)، وأطراف عديدة (طلاب، نقابين، مواطنين) لم يشاركوا فى إعداد الخطة ولا يدري أحد كيف سيكونوا جاهزين لتنفيذ خطة معدي البرنامج، أو كيف ستجري (البروفة) وأين ستجري هذه البروفة؟
باختصار إن البرنامج المئوي فى أفضل الأحوال هو برنامج (سن اليأس السياسي)، فقد أطبقت الظروف المحبطة بقادة التحالف ويبدو أنهم -بعد وفاة الثورية عسكرياً- دخلوا فى عدة وفاة حددوها بـ100 يوم مخافة أن يجعلوها أربعة أشهر و10 ايام كما تقتضي بذلك قواعد الشريعة الإسلامية التى قرر التحالف فى وثيقة الفجر الجديد إلغاءها وجعل الدولة علمانية!

الأحد، 16 يونيو 2013

قادة المعارضة ... أوهام المائة يوم ...!!

سجلت أحزاب المعارضة التي تلتئم تحت راية مايسمى «تحالف قوى الاجماع الوطني» لنفسها سابقة في تاريخ المعارضات العربية ان لم تكن المعارضات في العالم أجمع، عندما خرجت على السودانيين ببيان تتعهد فيه بإسقاط الحكومة خلال «مائة يوم»، وهو الامر الذي لم تُقْدم عليه معارضة في يوم من الايام، لان الصراع بين الحكم ايا كانت طبيعته الطبقية وتحالفاته الاجتماعية، بما في ذلك علاقته بأصحاب المال والممسكين بشريان الحياة الاقتصادية للبلاد، وبين المعارضات على اختلاف ايديولوجياتها ومرجعياتها وخطابها، وخصوصا وزنها ودورها في المشهد الداخلي، لا يمكن ان يُحتَسب بالايام وكأنه «رزنامة» معلقة على الحائط تقول: ان الحكومة السودانية ستسقط في العاشر من سبتمبر2013م لأعتبار أن (المائة يوم التي تبدأ في يونيو الجاري على ما جاء في شرح خطة الاسقاط).

وبهذا تكون المعارضة ( وهي دوما على ذلك) قد وقعت في خطأ كبير، ويبدو أن قادة المعارضة لم ينتبهوا الى مغامرة كهذه، بُنيت على الاوهام منها الى أي شيء اخر، وخاصة ان المحاضرات والندوات وباقي النشاطات والفعاليات السياسية والثقافية وتلك ذات الطابع الاجتماعي وخصوصا التحريضي التي حرصوا على وصفها بانها ستكون «سلمية» لن تُسهم في اسقاط الحكومة البشير الذي تزداد يوما بعد يوم شعبية وتأييدا وسط المواطنين خاصة بعد الإنتصارات التي تحققت في ابو كرشولاوسحق القوات المسلحة لقوات الجبهة الثورية المتمردة التي أرعبت وأرهبت المواطنين هناك ، يحدث ذلك وقادة المعارضة ودنما حياء أو مراعاة لشعور المواطنين الأبرياء يعلنون تحالفهم مع «الجبهة الثورية» ذاتها التي تقاتل بالسلاح المواطنين العزل.

وبصرف النظر عمّا يمكن لهذا التحالف بين المعارضة «السلمية» والجبهة الثورية (المسلحة) أن يشكّل ورقة ضغط على الحكومة لتحريض الشعب السوداني على المعارضة التي تضع «رِجلاً» هنا واخرى هناك، فان من غير التسرع او المغامرة القول: ان المعارضة قد اختارت التوقيت الخطأ.

فخطة (المائة يوم) التي أعلنت عنها القوى المعارضة لإسقاط النظام , محاولة لاستنساخ التجربة الليبية المسلحة التى تمكن عبرها الثوار من إسقاط نظام القذافي.لكن الحكومة الحالية بحسب مراقبين- لن تسقطها هذه القوى ولو منحت مائة عام , استنادا على وعيء الشعب السوداني الذي لن تنقاد لفاروق أبوعيسي ومن شايعه من المعارضين .فإسقاط الحكومة لن يتم إلا إذا اختار ذلك الشعب السودانى عبر صناديق الاقتراع في انتخابات حرة ونزيهة , حينها فقط سيكون قادة الحكومة الحالية سيكونون أول من يقبل بالنتيجة.

وخطة المائة يوم التي تم الإعلان عنها من قبل المعارضة ليست بالجديدة في حلقات التآمر , وتم تدبيرها قبل أكثر من عام بالعواصم الأوروبية من قبل بعض الدوائر الغربية والدول التى لها عداء مع السودان ومشروعه الوطني والإسلامي التحرري فى محاولة لتجميع الحركات المسلحة مع بعض قوى الداخل من أجل إحداث التغيير وإسقاط النظام بالقوة العسكرية .

فالمعارضة ودون وعيء منها حددت سقف مئة يوم للإطاحة بالحكومة، بحسب ما جاء في تصريح زعيم التحالف المعارض فاروق أبو عيسى. وكانت قد أكدت أنها ستعبئ أتباعها للخروج في مظاهرات سلمية لإسقاطها.

ودعوة المعارضة،للشعب السوداني إلى الخروج إلى الشارع تجدد سنويا ففي العام الماضي والأعوام التي سبقته أعلنت قادة المعارضة أنهم سيعبىون الشعب السوداني في إطار تظاهرات سلمية لإسقاط الحكومة السودانية. ودعوا حينها ولا زالوا إلى تنفيذ إضرابات من دون أن ينجح في إطلاق تحرك جماهيري ، لأن التجارب والمواقف تذهب إلى القول بأن السودانيين أياً كانت مواقفهم من الحكومة الحالية ، لازالوا يتندرون بمواقف المعارضة السياسية الضعيفة ، وآخرها موقف بعضاً منها المؤسف عقب هجوم الجبهة الثورية واعتداءها على مدينة أبو كرشولا، عموماً فالتجارب والمواقف تقول إن قادة المعارضة لا تزال في مرحلة المراهقة السياسية الراشدة رغم بلوغ كثير من قادتها من الكبر عتياً ، ولكأن أهداف هؤلاء القادة هي فقط إعداد خطط إسقاط الحكومة وعرضها نهاية كل شهر مع إمساكهم بطرق إسقاط حكومة تضم أكثر من (14) حزباً سياسياً؟!

جوبا والخسارة الإستراتيجية المزدوجة!

يبدو أن جوبا لم تجد بعد الوقت الكافي لقراءة طبيعة علاقاتها مع جارها السودان الذى لا غنى لها عنه أبداً -لا حضراً ولا مستقبلاً- السودان.
السطر الوحيد الذى مررت عليها عينيها وهي دامعة، كان هو السطر المتعلق بالبترول، فحين توقف ضخه بقرار منها قبل نحو ما عام عانت الأمرّين، اختل توازنها الاقتصادي، فقدت مرونة الحدود وكاد الجوع ذلكم الوحش الكاسر أن يفتك بالملايين من مواطنيها.
ومنذ أن وقعت عيني جوبا على هذا السطر المخيف قررت استعادة علاقاتها -النفطية على الأقل- مع السودان وليس سراً فى هذا الصدد أن أمين عام الحركة وأحد أكاسر الصقور فى الحكومة الجنوبية قال لقادة سودانيين معارضين في لقاء جمعهم بجوبا إن بلاده لا ترغب فى التصعيد مع السودان لأنها تتجه الآن نحو التنمية!
هكذا إذن بدأ الوعي الجنوبي يتسلل من رائحة آبار النفط فيملأ رئتيها بهواء الحياة ويجعلها تفكر ألف مرة قبل أن تتحرك أي تحرك عدائي تجاه السودان.
الآن وبعد أحداث أبو كرشولا وهزيمة الثورية هزيمة نكراء قرأت جوبا سطراً آخر من متن علاقاتها بالخرطوم وآلمها غاية الألم فهي تدعم القوى المسلحة المتمردة على الخرطوم دعماً مباشراً والأثر السالب لهذا الدعم سرعان ما إرتد عليها من جهتين ؛ من جهة أولى انكشفت (عارية) أمام الخرطوم بحيث لم يعد ممكناً -كما كان فى السابق- إنكار هذا الدعم؛ أدلة مادية لا تقبل أدنى تشكيك وضعتها الخرطوم على مائدة الرئيس الجنوبي وخيرته فى تحديد خياراته ولم يجد مناصاً سوى الإقرار والاعتذار.
ومن جهة ثانية فإن الدعم نفسه – على كثرته – لم يأت بنتيجة ولو صغيرة الحجم تحاجج بها، إذ أنه ما من هجوم شنّه المتمردون بدعم من الجنوب إلا وتصدت له الخرطوم وألحقت به خسائر فادحة.
إذن خسارة جوبا هنا مزدوجة، خسرت ثقة جارها السودان بعدما حصارها بأدلة دعمها للمتمردين ومن ثم سجل السودان هدفاً فى الشباك الجنوبية على مستوى المرمى الرئاسي بحيث يستحيل –بعد أن أقرّ الرئيس كير وقدم اعتذاره للخرطوم أن يظهر مسئول جنوبي (أدنى درجة) لينفي إقرار واعتذار رئيسه.
وفى جانب آخر خسرت جوبا ايضاً الدعم والمال والسلاح والهدف الذي كانت ترجوه بدعمها للثورية حين ألحقت الخرطوم هزائم نكراء بالثورية.
وعلى هذا الأساس فإن قراءة جوبا لدفتر علاقاتها بالسودان يمكن القول إنها أخذت منح أقرب (للتجريب)، بصرف النظر عن ما إذا كانت هناك قوى خارجية معروفة تذكي أوار هذا النزاع، ولكن جوبا أصبحت فى كل يوم تدرك أنها تخطئ وأنها تخسر من أن تربح، بل إن جوبا الآن وصلت آخر محطات التجريب، فبإمكانها الآن أن تحدد هل تود خوض حرب خاسرة لا محالة بينها وبين السودان، أم أنها ستسير فى ركاب العلاقات الطبيعية المستندة على إرث تاريخي خالد ومصالح إستراتيجية خالصة؟
لقد تبين الآن أن الحرب الطويلة التى خاضها القادة الجنوبيون ضد الخرطوم (لما يجاوز العقدين) مضافاً إليها فترة المفاوضات الطويلة الشاقة منذ العام 2003 وحتى نيفاشا 2005 مضافاً إليها فترة الانتقال الممتدة من العام 2005 وحتى 2011 جميعها لم تفد هؤلاء القادة في فهم طبيعة الأوضاع فى السودان ولا الكيفية المثلى للتعامل معه، وهو أمر وإن كانت نتيجته القريبة المباشرة أن الساسة الجنوبيين (الحركة الشعبية على وجه الخصوص) بطيئ الفهم والاستيعاب فى الشأن المختص بالعلاقات الدولية والسياسة الخارجية، فإن النتيجة على المدى الطويل تشير الى أن الحركة الشعبية الحاكمة هناك لن يطول ولن يطيب لها المقام فى سلطة إدارة الدولة طالما أنها لا تحسن إدارة مصالح دولتها، فليست الأمور كلها قضيا تاريخية مع السودان من الضروري الاقتصاص منه بشأنها وليست الأمور كلها محاولة صناعة نظام جديد ذي طبيعة افريقية (غير ملتزمة بالدين)، مبتعدة عن الثقافة العربية حتى تبدو متوافقة ومتسقة تماماً مع نظام جوبا.
الأمور اكبر من ذلك بكثير، فهناك دولة بها ما يجاوز الـ10 مليون نسمة ويحتاجون لخدمات وتنمية وتعليم وصحة وغذاء. لو أن الحركة الشعبية كانت قد صرفت ما صرفته على الثورية وقطاع الشمال فقط لتعبيد الطرق الرئيسية فى عواصم المدن الجنوبية الكبرى لكان ذلك انجازاً لها، ولو أنها استبدلت ثمن السلاح الهائل الذى راح هدراً على أيدي الثورية فى بناء مشروعات تنموية مشتركة مع الخرطوم لكان ذلك خطوة إستراتيجية نحو النهضة الشاملة.
وعلى ذلك فليست المشكلة الآن أن جوبا جربت كل شيء وفشلت، المشكلة أن جوبا مطالبة بسداد ثمن كل ذلك من حسابها الخاص ودون أن تكون قد استفادت من البضاعة!

لحركات المتمردة.. المراحل الأولى للنهايات الأخيرة!

فى تحليلات سابقة عديدة تنبأنا وتنبأ الكثير من المحليين والمراقبين اللصيقين بالشأن السوداني والحركات المسلحة المختلفة، بأن هذه الحركات المسلحة سوف يفعل الزمن فيها فعلته وأنها ستمضي الى تلاشي وزوال شاءت أم أبت.
قد يبدو هذا الأمر فى ظاهره للبعض بعيداً عن الواقع، والبعض الآخر قد يعتقد أنها طريقة سهلة للمداراة على الأزمة السودانية، ولكن من الناحية الموضوعية المجردة فإن هذه هي الحقيقة التى ظهر الآن جزء مقدر منها على سطح الأحداث، ولكي نفصِّل الأمر قليلاً فى إيجاز غير مخل نضع عدة مؤشرات على ذلك.
أولاً: هنالك فهم خاطئ بنسبة مائة بالمائة عن حجم هذه الحركات المسلحة ووزنها السياسي والعسكري وهذا كان صحيحاً -نسبياً- قبل حوالي 3 أو 4 سنوات حين كانت حركة خليل على وجه الخصوص تتلقى دعماً مباشراً ورغداً من تشاد وليبيا القذافي.
الدعم المالي الضخم والآليات الحديثة كانت تجتذب الكثير من الشباب ولا نقول الصبية للانخراط فى الحركة. الآن وحين جف الدعم وغاب زعيم الحركة - ذات ليلة - فإن هؤلاء الشباب تخلوا عنها عوضاً عن فقدانهم لكاريزما خليل وما كان يمثله لهم.
بل وحتى داخل صفوف القادة حدث تراجع ظهر جلياً فى الانشقاق الكبير الذى بلغ من شدته ووطأته على الحركة أنها لجأت الى عمليات تصفية غادرة وانتقامية من المنشقين فإزداد طينها بلاً. ولعل اسطع دليل على انهيار الحركة التى يقودها جبريل إبراهيم ليس فقط فقدانها لكل قادتها الميدانيين، دعك من الجند والصبية الصغار ولكن الأسوأ من ذلك فقدانها (للقوة) وهذا ما أكده جبريل حين هدد قبل أيام بضرب العاصمة السودانية من داخلها!
كان واضحاً لكل متابع جيد أن جبريل يكافح لكي يظل إسم حركته موجوداً بأي ثمن، بل حتى الدعم الذي قدم له مؤخراً عقب هزيمة الثورية فى أبو كرشولا إنما قدم لأغراض دعائية حتى لا تشعر الساحة السياسية أن حركة جبريل فى النزع الأخير، فقد تراجعت الثورية مهزومة وفقدت الكثير ولابد من (حمل الراية) حتى يظن الخصم أن راية الثورية ما تزال عالية خفاقة.
لقد انتهت تماماً حركة جبريل كحركة كانت ذات وزن سياسي وعسكري، فعل الزمن فعلته فيها وجف الدعم، وانسلخ عنها من انسلخ. حركة بهذا الوضع لا بإمكانها خوض الحرب مجدداً ولا بإمكانها التفاوض، فلو دخلت فى مواجهة ولو جانبية خاطفة فستخرج من الملعب؛ ولو جاءت مفاوضة -وهي بهذا البؤس، وقد سبقها آخرون من داخلها- فهي لن تجد سوى ما تبقي على المائدة!
أما حركة مناوي فحدث ولا حرج، حركة لم تقم أصلاً إلا على أساس إثني وعلى وجه الخصوص (قرابة مناوي شخصياً) والأسوأ من ذلك تلقت قبل عامين ضربات موجعة من حركة خليل فى مهاجرية أفقدتها تماماً توازنها ثم أخطأت ودخلت فى مواجهات مع الجيش السوداني -قبل أسبوعين أو ثلاث- بجنوب دارفور واستطاعت أن تنجح فى الهرب وعدّته نصراً.
حركة مناوي الآن لا تجد من تقوم بنهبهم لتشوين قواتها، وكمبالا ما تزال تحجب الدعم القليل الموجود فى حوزة الرئيس موسيفيني، بل إن الأخير -كشف دون أن يدري- عن ضعف حركات دارفور المسلحة حين عرض وساطته مؤخراً لحل المشكلة!
موسيفيني ما كان ليقدم على خطوة كهذه، عالية التكلفة سياسياً لو لم يكن يشعر بأن ما بين يديه من (حركات) قد دخلت فى حالة احتضار طويلة وشاقة. موسيفيني خانه ذكاؤه -إن كان له ذكاء- فى تصريحه ذاك.
أما حركة عبد الواحد محمد نور فيكفي فقط أنها حتى الآن تبذل كل ما في وسعها حتى لا تصطدم بالجيش السوداني. أقصى أمنيات عبد الواحد ألا يتعرض لما تعرض له خصمه اللدود وصديقه السابق مناوي، فهو يحتفظ (بما تبقى من جيش) فى أبعد (جيب) لا يخطر على البال، ولكنه بهذه الطريقة مضطر للتفاوض عاجلاً أم آجلاً لأسباب نوردها فى تحليل آخر ولكن أقلها أن داعميه لم يعودوا يثقون فى قدراته وطريقة تعامله مع رفاقه فى الثورية.
وأخيراً تبقت الثورية، والثورية -بساطة شديدة وبعيداً عن هزيمتها الأخيرة- فقدت تماماً إسنادها الداخلي وهو عنصر مهم لها بل هو شريان حياتها. لقد تراجع الكثير من المراهنين عليها جراء ما فعلته فى أبو كرشولا، كما أن جوبا ستضطر على الأقل فى الوقت الراهن لحجب الدعم عنها مخافة تهديدات الخرطوم (الخطيرة) بشأن وقف ضخ النفط وتجميد الاتفاقية المبرمة بين البلدين.
بوسعك عزيز القارئ أن تتمعن وتتأمل أكثر لتدرك أن النار بالفعل تأكل بعضها تماماً كما يقول المثل العامي السوداني!

الأربعاء، 12 يونيو 2013

حشود عسكرية لمتمردي السودان لمهاجمة مناطق بـ«النيل الأزرق»

كشفت مصادر مطلعة تحدثت لصحيفة «آخر لحظة» الصادرة بالخرطوم، اليوم الأربعاء، عن حشود كبيرة للقوات التابعة للحركة الشعبية (قطاع الشمال) قرب منطقة «يابوس» الحدودية بين ولايتي النيل الأزرق السودانية وأعالي النيل الجنوب سودانية.

وقالت المصادر، إن المتمرد مالك عقار الذي يتواجد حاليا بالمنطقة يقود تحركات كثيفة لشن هجمات على بعض المواقع بولاية النيل الأزرق، وأضافت أن هذه الحشود التي يشرف عليها عقار بنفسه مزودة بآليات وأسلحة ثقيلة من دولة الجنوب.

واعتبرت المصادر، أن هذه الخطوة تأتي ضمن مخطط لإضعاف القوات المسلحة السودانية من خلال تعدد جبهات القتال وإشعال الحرب في ولاية النيل الأزرق، موضحة أن الجيش الشعبي لا يزال يسيطر على 7 مناطق بالولاية.

استراتيجية “إسرائيل” في مناطق منابع النيل

جذبت أزمة “سد النهضة” في إثيوبيا، وما أظهرته تقديرات الخبراء المختصين، من أنه يحمل نتائج خطرة بالنسبة إلى استقرار تدفق مياه النيل على مصر، ووجود علاقة ل”إسرائيل” بمشروعات إثيوبيا على مياه النيل، الأنظار إلى استراتيجية “إسرائيلية” معلنة ومعروفة، للوجود في مناطق العمق الاستراتيجي لمصر، خاصة من ناحيتها الجنوبية في إفريقيا .

كانت بداية هذه الاستراتيجية، في أواخر الخمسينات، التي وضعها ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء ل”إسرائيل”، وعرفت باسم محيط الدائرة Periphery Theary ، وتعني القفز على إطار الدائرة العربية المحيطة ب”إسرائيل”، إلى الدول الواقعة خارج محيط الدائرة، وركزت في البداية على دول إسلامية يفترض بالضرورة أن تكون رصيد قوة للعرب . فإذا وصلت “إسرائيل” إليها، وأقامت معها ارتباطات وعلاقات تعاون واسعة النطاق، لأمكنها أن تبدد نصيب العرب من هذا الرصيد .

وهو ما نجحت فيه “إسرائيل” عقب إنشائها، بعلاقات مبكرة، عسكرية، واقتصادية، ومخابراتية مع إيران وتركيا .

ثم استكملت خطواتها طبقا لهذه النظرية، في العام ،1991 بعلاقات تعاون متعددة النواحي مع دول آسيا الوسطى الإسلامية، عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي .

إفريقيا لم تكن بعيدة عن فكرة هذه النظرية، بهدف النفاذ إلى مناطق العمق الاستراتيجي لمصر، من ناحيتها الجنوبية، خاصة عند منابع النيل .

وهو ما كشف عنه التقرير المقدم في سبتمبر/أيلول 2008 إلى حكومة “إسرائيل”، من أفي ديختر، وزير الأمن “الإسرائيلي”، وتحدث فيه عن الساحات المحيطة ب”إسرائيل”، والتي تمتد إلى إفريقيا .

إن نظرة “إسرائيل” إلى مياه النيل ليست جديدة، وقد تناولتها دراسات للمؤسسات “الإسرائيلية” المختصة بالمياه في الفترة من 1964 - ،1976 وهي الفكرة نفسها التي طرحها شمعون بيريز في كتابه الصادر العام 1993 بعنوان “الشرق الأوسط الجديد”، الذي ركز فيه على احتياج “إسرائيل” إلى زيادة سريعة في مواردها المائية . وقال بالتحديد إن أفضل مصادر المياه موجودة عادة خارج حدود الدول التي هي في أشد الحاجة إليها .

وارتبط بهذا التفكير اهتمام “إسرائيل” بخلق وجود لها في منطقة منابع النيل، ليس فقط من أجل الاستفادة المباشرة منها، بل أيضاً لخلق مشكلات تؤثر في مصر واستقرارها .

إن “إسرائيل” تعمل وفق استراتيجية طويلة المدى، تنفذ على مراحل زمنية، تعتمد على حالة توازن القوى بينها وبين الدول العربية، وعلى وضع العرب قوة أو ضعفاً . ولم يتغير مسار هذه الاستراتيجية منذ قيامها العام ،1948 بل ومن قبل ذلك حين كانت “إسرائيل” مجرد فكرة، في خطة عمل الحركة الصهيونية، في أول القرن العشرين .

لقد كانت المواجهات بين مصر و”إسرائيل”، تتم من خلال حروب “إسرائيل” من اتجاه الحدود الشمالية الشرقية لمصر من سيناء، لكنها بحكم كونها دولة، تتحرك وفق خطط استراتيجية متعددة الأبعاد والمراحل، فإنها لم تكف عن التحرك المكمل لخططها العسكرية، بمد نطاق حركتها بوسائل أخرى غير عسكرية، تنفذ إلى العمق الاستراتيجي لمصر، إذ تُعدّ إفريقيا منطقة حيوية لأمن مصر القومي، بسبب تدفق مياه النيل منها .

وإذا كانت الأنظار تتركز طوال عشرات السنين الماضية، على جبهة سيناء في الصراع مع “إسرائيل”، فقد كان ينبغي لأي تفكير استراتيجي، ألا يتجاهل متابعة ما يجرى في مناطق العمق الاستراتيجي جنوباً .

واللافت للنظر أن الضغوط الحالية في الجبهة الجنوبية الإفريقية، تشتد في الوقت نفسه الذي تتكثف فيه ضغوط أخرى على محور الأمن القومي في سيناء، بتكرار حوادث وعمليات التفجيرات، وقتل، وخطف الجنود .

إن التحرك “الإسرائيلي” في إفريقيا -  العمق الاستراتيجي لمصر - لم يكن قاصراً على جانب واحد من العلاقات مع دول هذه المنطقة، لكنه تشعب إلى مختلف فروع العلاقات، خاصة مع دول حوض النيل، ف”إسرائيل” درست أوضاع هذه الدول، واحتياجاتها، وجهزت مشروعات تقدمت بها إليها، سهلت لها الدخول معها في مشروعات مشتركة، اقتصادية، وزراعية، ومائية، وبنوك . وكانت إثيوبيا على رأس هذه الدول، التي كانت “إسرائيل” محفزة لها بناء “سد النهضة”، ثم عهدت إثيوبيا مؤخراً إلى شركة “إسرائيلية”، بمهمة إدارة وتسويق الكهرباء التي ينتجها السد .

لقد كان لمصر وجود قوي ومؤثر ورائد، في القارة، منذ سنوات مناصرتها لحركات التحرر الإفريقية، وتصفية الاستعمار الأجنبي، لكن حدث بعد ذلك انسحاب معنوي من القارة، وتضاؤل الاهتمام بالعلاقات معها . وهو أمر يتعارض مع مفهوم الفكر الاستراتيجي الذي يضع على أولوياته، الوجود في المناطق المؤثرة في الأمن القومي للدولة . فما بالنا وهذه المناطق بها منابع الحياة لمصر؟

إن الوضع الخطر الذي يتسبب فيه مشروع السد الإثيوبي، لا ينبغي بعد إيجاد حلول له، التوقف عند هذا الحد، لأن المصالح العليا للدولة تقتضي حنكة التفكير السياسي الواعي الذي يبلور رؤية استراتيجية لخريطة علاقات مع إفريقيا متعددة الأبعاد، تتحرك في كل اتجاهات التعاون والتقارب .

المهدي: برنامج الـ(100) يوم لإسقاط النظام يضر بالقضية السودانية

كشف رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي عن تلقي حزبه  مبادرة من المشير عبد الرحمن سوار الذهب لحوار موسع لكل القوي السياسية، ورهن قبول حزبه للدعوة بالسماح لكافة الأحزاب بالمشاركة وطرح رؤيتها لحل الأزمات وعدم الانتقائية في مشاركة الأحزاب في الحوار.
في وقت شدد المهدي علي أن الحديث عن برنامج المائة يوم الذي تطرحه المعارضة لإسقاط النظام لا يعنيهم في شئ، وأن حزبه ليس جزءاً من البرنامج، مشدداً علي أن برنامج المائة يوم يضر بالقضية السودانية.
في  الأثناء  دحض ممثل حزب الأمة القومي بتحالف قوي الإجماع الوطني عبد الجليل الباشا حديث رئيس الحزب بشأن مشاركة الحزب في برنامج المائة يوم، وقال الباشا: إن حزبه شارك في كل الاجتماعات والمناشط المتعلقة بالبرنامج، مشدداً علي أن برنامج المائة يوم المقصود منه التعبئة وليس إسقاط النظام.
وأعلن المهدي خلال حديثه في مؤتمر صحفي حول خريطة الطريق نحو مستقبل السودان بدار حزبه أمس عن تبني حزبه لمبادرة "مشروع ميثاق لنظام جديد" .

الجبهة الثورية.. قراءات أمريكية تكشف المثير

اعتبر تقرير حديث بموقع (سمول آرم) التي تخطي بدعم الخارجية الأمريكية أن هيمنة الحركة الشعبية قطاع الشمال علي تحالف الجبهة الثورية ومقدرتها علي الحصول علي عدم كبير من دولة الجنوب ساهم الي حد كبير في تشكيل  الجبهة الثورية، ونبهت الي أنه علي الرغم من صراع السلطة والاختلافات الفلسفية بين الفصائل الدارفورية وتحديات التعاون العسكري إلا أن تحالف الجبهة الثورية تمكن من توحيد الحركات الدارفورية المسلحة وتشكيل تحالف جغرافي وعرقي كبير.
اختراق الشعبية
وأشارت مجموعة (سموا آرم) الي أن مشاركة الحركة الشعبية قطاع الشمال لها أهميتها بالنسبة للأجندة الوطنية لتحالف الجبهة الثورية ومكنها من التغلب علي رغبة الحكومة في عزلها، ويري  كاتب التقرير أن تنوع عضوية الجبهة الثورية قلل الي حد كبير من انتقادها علي أنها تمثل انتماءات عرقية محددة إلا أن دعم دولة الجنوب للجبهة الثورية منعها من اكتساب مؤيدين داخل السودان إضافة الي أن الجبهة الثورية لا تحظي بتأييد شعبي  كبير خلافاً لدارفور والمنطقتين – في إِشارة لولاية جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ونبهت (سمول آرم) الي أن الجبهة الثورية أتاحت للحركات الدارفورية الوصول الي جبال النوبة التي تعتبر حالياً قاعدة خلفية لشن الهجمات علي الخرطوم فيما يتعلق بالناحية العسكرية، لافتة الي أنه علي الرغم من أن هيكل الجبهة الثورية عمل علي توزيع المهام بصورة رسمية علي عضويتها إلا أن هذه المسئوليات غير مفعلة، مشيرة الي سيطرة ياسر عرمان علي القضايا السياسية بالحركة خلافاً لهيكل التحالف الذي أوكل المهمة الي جبريل إبراهيم، وقالت (سمول آرم) إن مقدرة الجبهة الثورية علي الاستمرار كان السؤال الذي طرح نفسه منذ إنشائها خاصة وأن كثيراً من المراقبين والدبلوماسيين يرون أن دورة حياتها محدودة وآخرين يرون أنه زواج مبني علي المصالح وأنه سينفض حال وجد أحد الشريكين خياراً أفضل – الخيار – الي لم يلوح في الأفق بعد، مضيفين أن التحالف لا يميل الي التكتيك التقليد.
مناطق السيطرة
نظراً للدور الرئيسي الذي تلعبه الحركة الشعبية قطاع الشمال فالجبهة الثورية معقلها في كاودا وجبال النوبة وولاية جنوب كردفان التي تعتبر أكثر المناطق انتشاراً للنشاط العسكري للجبهة الثورية والذي يمتد الي ولاية النيل الأزرق والمناطق الحدودية مع دولة الجنوب، في ذات الوقت ظلت المجموعات الدارفورية نشطة في دارفور بالقرب من كاودا وحدود دولة الجنوب، وانحصرت أغلب هجماتها في العام السابق بالقرب من منطقة جنوب دارفور والمناطق التي تقع علي حدود دولة الجنوب، وأشارت سمول آرم الي أن المجموعات الدارفورية شاركت الجبهة الثورية في هجماتها خارج منطقة دارفور، خاصة في هجومها علي منطقة هجليج في أبريل من العام الماضي إلا أنها فضلت الابتعاد عن الأضواء أو تقليل مشاركتها، وأبلغت حركة تحرير السودان الجبهة الثورية عدم رغبتها في المشاركة في النشاط العسكري خارج منطقة دارفور، حركة تحرير السودان جناح مناوي تعتبر القوي المسيطرة في دارفور ولها اتصالاتها مع بعثة الأمم المتحدة بدارفور "يوناميد" وتتصرف كسلطة إقليمية محلية، وفيما يتعلق بحركة تحرير السودان جناح عبد الواحد نور رجعت مؤخراً الي قواعدها بجبل مرة ولكن تزايد تعاونها مع جناح مناوي نتيجة تطور العلاقات التي خلقتها الجبهة الثورية بينهما.
رسائل أم روابة
وتري (سمول آرم) أن هجوم الجبهة الثورية علي منطقة أم روابة في أواخر أبريل من العام الحالي حمل في طياته رسائل سياسية عديدة أولها برهن علي أهمية القدرات العسكرية للجبهة الثورية وقدرتها علي التمدد خارج مناطقها التقليدية في دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، كذلك عكس رغبة الجبهة الثورية في عدم حصر نفسها في إطار المفاوضات الإقليمية ورغبتها في أن تعامل كممثل لكل السودان.
وأشار التقرير الي أن المفاوضات بشأن تشكيل الجبهة الثورية لازالت جارية ومخاوف حركة العدل والمساواة – التي تتعارض ايدولوجياً مع التحالف – من إصرار الجبهة الثورية علي دولة علمانية يشكل التحدي الأكبر، مشيراً الي أحزاب المعارضة المتمثلة في حزب الأمة وحزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي لم تناد بتغيير النظام عسكرياً، ولكنها تركت الباب موارباً في علاقتها بالجبهة الثورية.

هل سينجح السيسي فيما فشلت فيه بعثة (اليوناميد)؟!

مجمل صورة المشهد السياسي والأمني بولايات دارفور، يشير إلى أن مرحلة جديدة من مراحل تخبط قادة هذه الحركات السالبة قد تبدأ قريباً، لأن العلاقات الاجتماعية التي تراكمت عبر ما يزيد عن الثمان سنوات في هذه المعسكرات بأطراف المدن، قد انفتحت باتجاه المجتمع الذي كانت (تقيم على هوامشه)، بأن تم ردم هذه الهوة من خلال برامج التعليم والعمل الحر، وباتت المغالطة – التي وجدت حظها من التدويل – في أنه لم يحن الوقت، لأن تصبح هذه المعسكرات جزءاً من المدن التي تقوم على أطرافها، بأن تمضي الحياة باعتياد مادام النازحون هم من يرغب في ذلك.. ما هي عناصر تحليل هذه المغالطات السياسية بين قادة الحركات المسلحة والمنظمات الطوعية والنازحين؟!.
في معسكر أبوشوك في الفاشر حينما تستمع لرجل هو شيخ الدين مدير المعسكر، تستخلص أن واقع النزوح الذي يعيشه هؤلاء الأهالي جاءت اللحظة التي يتحول فيها إلى الأندماج في المدينة، والفيصل في كل ذلك هو رغبة السكان أنفسهم، وما يمكن وصفه بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات والجهات الشعبية والرسمية الناشطة في هذا المجال، والبنية التحتية التي تتحرك داخلها هذه المعسكرات هي جزء أصيل من المدينة، المدارس والمراكز العلاجية والأسواق وكل المواقع الخدمية، هذا في سياق العرض العام للموضوع .. لكن الرؤية السياسية التي تقدم عبر ممثلو الحركات المسلحة تتصل بأن هؤلاء (الضحايا) يمثلون (قضيتهم الأساسية) بالضد من الحكومة، لأنها تدولت من داخل هذه المعسكرات وفي حال ذهابهم لقراهم مرة أخرى يصعب إثبات (جدوى تحرك اللاندكروزرات) في أعمال عسكرية وحينها لن يكون هناك مبرر لإخفاء المعسكرات في شرق جبل مرة.
بعيداً عن السياسة، تؤكد كل التجارب الاجتماعية السابقة في المجتمعات التي شهدت نزاعات مسلحة واسعة مثلما يحدث في دارفور أن التمويل والحصول على التأييد السياسي لأي حركة تمرد يصطدم بواقع ممارسات منسوبيها على الأرض، لأن التأييد السياسي لا ينشأ بسبب القهر والتخويف، وهو السمة التي تميز علاقة هذه الحركات بسكان المعسكرات حول الفاشر ونيالا وزالنجي وغيرها، ويصل القهر حدود فرض أتاوات وأشياء أشبه بالضريبة عليهم مع التصرف في كل شيء يخصهم، لتتحول الحرب إلى مضمون اجتماعي متأخر في شرحه النهائي تجاه أي مفهوم (للتغيير الثوري)، لتصبح المعسكرات (دورعاً بشرية) تحت حماية اليوناميد المباشرة وبعيداً عن أيدي السلطات المحلية (بموجب القرار ألأممي الذي جاء بهذه البعثة)، لذلك فإن وجود هؤلاء النازحين لم يعد أمراً (طارئاً) كنتيجة لتردي أوضاع أمنية ستنتهي كفترة مؤقتة، وإنما هو وجود إستراتيجي مخطط وله شروطه المختلفة.
إن الواقع الأمني الذي تفرضه هذه الإقامة الجبرية على قاطني هذه المعسكرات لا يمكن تحمل مسؤوليته من قبل أي طرف هناك، لأن القضية برمتها لم تعد تضم هذا الإنسان كأولوية فيها، وإنما سعت لتوظيفه كأداة فاعلة في داخلها، وتنجم عن ذلك صعوبات لا يمكن التغلب عليها في أي مرحلة قادة ما لم تتمكن هذه الأطراف من تصحيح وترتيب أولوياتها السياسية والأمنية في إقليم دارفور على أساس خيارات سياسية ممكنة التحقق، لأن العنف وتصعيده لأقصي حالات الأزمة يضر بهذا الإنسان نفسه الذي هو فعلاً يقوم بدفع فاتورة كل شيء تحت دعاوى التحرير والعدالة والإنصاف الاجتماعي، ولا تنحصر مسؤولية المجتمع الدولي في توفير الغذاء فقط وإنما تمتد لكي تتمكن من الإجابة على سؤال (النجوز والمهنية) في أداء بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي هناك، كيف تتم صناعة الأمن والسلام إذا كان كل شيء بأيدي قادة الجماعات المتفلتة، وما هي معايير هذه الحماية ومطلوباتها التي يبدو أن الصرف عليها كان بذخياً؟!.

الجبهة الثورية.. قراءات أمريكية تكشف المثير

اعتبر تقرير حديث بموقع (سمول آرم) التي تخطي بدعم الخارجية الأمريكية أن هيمنة الحركة الشعبية قطاع الشمال علي تحالف الجبهة الثورية ومقدرتها علي الحصول علي عدم كبير من دولة الجنوب ساهم الي حد كبير في تشكيل  الجبهة الثورية، ونبهت الي أنه علي الرغم من صراع السلطة والاختلافات الفلسفية بين الفصائل الدارفورية وتحديات التعاون العسكري إلا أن تحالف الجبهة الثورية تمكن من توحيد الحركات الدارفورية المسلحة وتشكيل تحالف جغرافي وعرقي كبير.
اختراق الشعبية
وأشارت مجموعة (سموا آرم) الي أن مشاركة الحركة الشعبية قطاع الشمال لها أهميتها بالنسبة للأجندة الوطنية لتحالف الجبهة الثورية ومكنها من التغلب علي رغبة الحكومة في عزلها، ويري  كاتب التقرير أن تنوع عضوية الجبهة الثورية قلل الي حد كبير من انتقادها علي أنها تمثل انتماءات عرقية محددة إلا أن دعم دولة الجنوب للجبهة الثورية منعها من اكتساب مؤيدين داخل السودان إضافة الي أن الجبهة الثورية لا تحظي بتأييد شعبي  كبير خلافاً لدارفور والمنطقتين – في إِشارة لولاية جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ونبهت (سمول آرم) الي أن الجبهة الثورية أتاحت للحركات الدارفورية الوصول الي جبال النوبة التي تعتبر حالياً قاعدة خلفية لشن الهجمات علي الخرطوم فيما يتعلق بالناحية العسكرية، لافتة الي أنه علي الرغم من أن هيكل الجبهة الثورية عمل علي توزيع المهام بصورة رسمية علي عضويتها إلا أن هذه المسئوليات غير مفعلة، مشيرة الي سيطرة ياسر عرمان علي القضايا السياسية بالحركة خلافاً لهيكل التحالف الذي أوكل المهمة الي جبريل إبراهيم، وقالت (سمول آرم) إن مقدرة الجبهة الثورية علي الاستمرار كان السؤال الذي طرح نفسه منذ إنشائها خاصة وأن كثيراً من المراقبين والدبلوماسيين يرون أن دورة حياتها محدودة وآخرين يرون أنه زواج مبني علي المصالح وأنه سينفض حال وجد أحد الشريكين خياراً أفضل – الخيار – الي لم يلوح في الأفق بعد، مضيفين أن التحالف لا يميل الي التكتيك التقليد.
مناطق السيطرة
نظراً للدور الرئيسي الذي تلعبه الحركة الشعبية قطاع الشمال فالجبهة الثورية معقلها في كاودا وجبال النوبة وولاية جنوب كردفان التي تعتبر أكثر المناطق انتشاراً للنشاط العسكري للجبهة الثورية والذي يمتد الي ولاية النيل الأزرق والمناطق الحدودية مع دولة الجنوب، في ذات الوقت ظلت المجموعات الدارفورية نشطة في دارفور بالقرب من كاودا وحدود دولة الجنوب، وانحصرت أغلب هجماتها في العام السابق بالقرب من منطقة جنوب دارفور والمناطق التي تقع علي حدود دولة الجنوب، وأشارت سمول آرم الي أن المجموعات الدارفورية شاركت الجبهة الثورية في هجماتها خارج منطقة دارفور، خاصة في هجومها علي منطقة هجليج في أبريل من العام الماضي إلا أنها فضلت الابتعاد عن الأضواء أو تقليل مشاركتها، وأبلغت حركة تحرير السودان الجبهة الثورية عدم رغبتها في المشاركة في النشاط العسكري خارج منطقة دارفور، حركة تحرير السودان جناح مناوي تعتبر القوي المسيطرة في دارفور ولها اتصالاتها مع بعثة الأمم المتحدة بدارفور "يوناميد" وتتصرف كسلطة إقليمية محلية، وفيما يتعلق بحركة تحرير السودان جناح عبد الواحد نور رجعت مؤخراً الي قواعدها بجبل مرة ولكن تزايد تعاونها مع جناح مناوي نتيجة تطور العلاقات التي خلقتها الجبهة الثورية بينهما.
رسائل أم روابة
وتري (سمول آرم) أن هجوم الجبهة الثورية علي منطقة أم روابة في أواخر أبريل من العام الحالي حمل في طياته رسائل سياسية عديدة أولها برهن علي أهمية القدرات العسكرية للجبهة الثورية وقدرتها علي التمدد خارج مناطقها التقليدية في دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، كذلك عكس رغبة الجبهة الثورية في عدم حصر نفسها في إطار المفاوضات الإقليمية ورغبتها في أن تعامل كممثل لكل السودان.
وأشار التقرير الي أن المفاوضات بشأن تشكيل الجبهة الثورية لازالت جارية ومخاوف حركة العدل والمساواة – التي تتعارض ايدولوجياً مع التحالف – من إصرار الجبهة الثورية علي دولة علمانية يشكل التحدي الأكبر، مشيراً الي أحزاب المعارضة المتمثلة في حزب الأمة وحزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي لم تناد بتغيير النظام عسكرياً، ولكنها تركت الباب موارباً في علاقتها بالجبهة الثورية.

الشعب (لا) يريد حكم المعارضة..!

تتعدد أنواع المعارضة والهدف واحد (إسقاط النظام).. معارضة سياسية ترفع شعار العمل السياسي السلمي لإسقاط النظام.. ومعارضة مسلحة (الجبهة الثورية) اختارت العمل المسلح لتحقيق أهدافها.. تحالف المعارضة يراهن علي التعبئة السياسية للشارع السوداني.. والحركات المسلحة ومن يتعاطف معها تراهن علي العمل المسلح..!
موجهات الخيار السياسي السلمي.. مائة يوم.. حكومة قومية.. البديل الديمقراطي في حالة رفض هذه الموجهات من قبل الحزب الحاكم يكون الخيار الآخر لتغيير النظام بالوسائل السلمية المتاحة (المنابر السلمية المتاحة) التنسيق مع قواعد الأحزاب في الأحياء  والمدن والقرى والأرياف.. يعني وكما يقول أهلنا الغبش.. اللعب بين الحكومة والمعارضة أصبح علي المكشوف.. والحشاش يملأ شبكته كما يقول الدكتور نافع علي نافع.. أجمع المراقبون أن المعارضة وتكتلاتها لم تعد مقبولة ولا مهضومة من المواطنين في السودان..!
وعلي حد تعبيرهم هم أي المواطنين أنهم جربوا حكم الأحزاب ومحصلته.. لا جديد.. في المقابل فإن (سكوت) السودانيين علي حكومة المؤتمر الوطني (ليس حباً) فيها .. إنما هي أي حكومة المؤتمر الوطني في رأيهم أحسن حالاً من الأحزاب يتساءل معظم السودانيين: إذا أسقطنا النظام الحاكم فمن البديل؟
علي حد تعبيرهم لا يوجد في الساحة غير الأحزاب المتربصة بالنظام وسعيها لإسقاطه بكل ما تملك من قوة..!
إذاً أحزاب المعارضة في نظر المواطنين ليست خياراً أو بالأصح ليست بديلاً ناجحاً  لحكومة المؤتمر الوطني.. عليه تصبح (فورة) المعارضة  كمن يحرث في البحر.. في خضم هذه الأحداث والاحتمالات يصبح المواطن السوداني حجر الزاوية.. بما أن رأيه  أي المواطن السوداني بات واضحاً فينبغي علي الإخوة في حكومة المؤتمر الوطني أن يبذلوا قصارى جهدهم لإسعاد هذا الإنسان السوداني المدرك لأدق تفاصيل اللعبة السياسية..
كما يجب علي أحزاب المعارضة أن تعمل علي تغيير منهجيتها لكسب ثقة المواطن السوداني.. ونقول لهؤلاء وهؤلاء أنصفوا الإنسان السوداني الذي صبر بما فيه الكفاية علي الحكومة والمعارضة وعلي الأزمات بكل أنواعها هجوم عنيف علي بعض السياسيين.
يا خبر أسود.. البروف ميرغني أبو عوف رئيس اللجنة القومية للحكومة الاقتصادية والاجتماعية (يقر) أن هناك احتكاراً لبعض السلع الضرورية لحياة المواطنين يتم بتخطيط من سياسيين كبار في الدولة... يا للهول إنه الفساد بعينه.. ويواصل البروف ميرغني حديثه متهماً الحكومة ببيع المخزون الاستراتيجي لبرامج الغذاء العالمي ومن ثم يوزعه البرنامج في السودان...!
كهربة المشاريع الزراعية إلي متي ؟!
رغم توجيهات النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان ما زالت عشرة آلاف مشروع زراعي (خاص) في ولاية نهر النيل في انتظار الكهرباء...! مع ان الحكومة قامت بكهربة معظم المشاريع الحكومية في الولاية وتوقفت عن كهربة المشاريع الزراعية الخاصة رغم اعتراف الجهات المختصة في ولاية نهر النيل أن أنتاج المشاريع الخاصة يفوق الحكومية.
الحد الأدنى للأجور
ما زال العاملون في البلاد ينتظرون الزيادة في الحدي الأدنى للأجور (425) جنيه.. منذ يناير الماضي وقرار السيد الرئيس لم ير النور.. الجهات المختصة في وزارة المالية قالت إن الصرف سيتم بأثر رجعي .. وبعد مرور خمسة أشهر لا حس ولا خبر يبدو أن وزارة المالية كانت محقة عندما اعترضت علي الزيادة في الأجور والسبب أن الميزانية لا تسمح.. الطاسة ضائعة.. يا حليل الموظفين ليس لهم وجيع.. ونقول للجميع حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وليس كفي .

الإتحاد الأوروبي و (لعبة شبابية) مبتكرة!

الأوروبيشهدت مدينة بروكسيل حيث مقر الاتحاد الأوروبي أواخر شهر مايو الماضي زيارة تعريفية أعدّها الاتحاد الأوروبي عبر بعثته المقيمة بالعاصمة السودانية الخرطوم لوفد مكوَّن من حوالي 9 أعضاء من شباب الأحزاب السياسية السودانية المختلفة يساراً ويميناً ووسطاً.
الزيارة فيما يبدو – من ظاهرها – كانت تستهدف التعريف بمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتدريب أعضاء الوفد -باعتبارهم شباباً- على قضايا الديمقراطية وكيفية مواجهة تحدياتها وتجارب الانفصال والحوار  السياسي وأدوات وفنون الاتصال الجماهيري.
وتشير متابعات (سودان سفاري) إن الدعوة جاءت ضمن برامج وترتيبات قام بها مكتب "تشجيع الديمقراطية"؛ وهو جزء من البرلمان الأوروبي وقد استمر البرنامج لما يقارب الأسبوع، فى الفترة من السابع والعشرين من مايو إلى الأول من يونيو الحالي، وهو برنامج بصفة عامة لا يثور غبار كثيف بشأنه، غير أنَّ الأمر المثير للقلق، وما أكثر ما يثير القلق حين يتعلق الأمر ببرامج (ناعمة الملمس)، خفيفة ورشيقة كهذا البرنامج أنّ منظمة العفو الدولية (أمنستي) التى أفسح لها البرنامج مساحة مقدرة -والأسباب بالطبع معروفة!- خاضت فى الشأن الحقوقي السوداني وتحدثت باستفاضة وبالتفصيل عن تقارير انتهاكات حقوقية اتهمت بها الحكومة السودانية.
وربما كان من الطبيعي -فى مثل هذه المناسبات- والحاضرين من الشباب، أن يحرص معدّو البرنامج على الطرق بشدة وبعنف على هذا الجانب فى محاولة لاستغلال سانحة البرنامج التعريفي لحشو الأذهان الشبابية بما قد يثير قلق هؤلاء الشباب، ولكن كانت الطامّة الكبرى أن مندوب منظمة العفو الدولية فُوجئَ بعد أن أنهى تقريره المطول هذا بأحد الشباب المشاركين فى البرنامج يتساءل عن ما إذا كانت المنظمة قد رصدت بالمقابل الانتهاكات الحقيقية والفظائع غير المسبوقة التى ارتكبها متمردو الجبهة الثورية وبعض المتمردين الآخرين؟
السؤال -لدهشة الحضور- جعل مقدم التقرير يتلجلج وبالكاد تخرج الكلمات من لسانه ولم يجد مخرجاً سوى القول إنهم يعملون على إعداد تقرير بهذا الصدد ما يزال قيد الإعداد!
كان من الواضح أن البرنامج ذي الطبيعة التعريفية الموضوعية (البريئة) قد سقط فى أول امتحان حقيقي، حين تحاملت منظمة العفو الدولية على الحكومة السودانية غاضّة الطرف عن إنتهاكات المتمردين. فكما أشرنا فى صدر هذا التحليل فإن فكرة البرنامج والمجموعة التى أُختيرت للمشاركة بحيث ضمت كل أطياف السياسة السودانية، جيّدة ولا غبار عليها طالما أنها ذات منحى تدريبي، يتحلّى بالتوازن وبالموضوعية، ويعلِّي من قيمة الحوار.
ظاهرياً هذه أمور لا ينازع بشأنها أحد، ولكن كان خطأ معدي البرنامج الذى أفسدَ (الطبخة) كلها أنهم جعلوا محور البرنامج تقريراً حقوقياً يدين الحكومة السودانية، فى حين أن إنتهاكات المتمردين الطازجة التى لم تجف بعد آثارها هي مجرد (تقرير واحد) وهو ما يزال حتى الآن (قيد الإعداد)!
أكثر من ثلاثة أسابيع كانت قد مضت عقب اعتداءات أبو كرشولا والإعدامات وعمليات الذبح العلنية التى تمت على مرأى ومسمع العالم ومنظمة العفو الدولية مشغولة بانتهاكات الحكومة السودانية ولم (تتفرغ بعد) لكتابة (سطر واحد) لما جرى من قبل المتمردين فى جنوب كردفان!
هذه فى الواقع هي أزمة العقلية السياسية الغربية؛ النظر الى الأشياء بأكثر من عينين والاستماع الى الأمور بأكثر من أذنين، فهل ياتُرى حقق البرنامج -بمعياره المزدوج هذا- هدفه؛ وهل كان المقصود من كل ذلك هو عزف سيمفونية الانتهاكات الحكومية لإطراب الأُذن الشبابية السودانية الحاضرة؟
إن الأمر هنا أشبه بمَن يبني بيتاً جميلاً بِحُرّ ماله وجهده وعرقه، ولكنه (يسرق أثاثاً) ليتباهى به! فالاتحاد الأوربي فيما بدا لنا (يخطط) بدقة وبشيء من الروِّية والأناة لصناعة شباب سياسي سوداني (متشرِّب) بالقيم الأوروبية، وضرب عدد من العصافير بحصاةٍ واحدة عبر مثل هذه البرامج التى ظاهرها قضايا موضوعية جيّدة وباطنها قضايا تخصه وتخدم أهدافه وأهداف (جهات أخرى)!

مائة يوم من العزلة

وضعت المعارضة برنامجاً لإسقاط النظام قبل أن يقوم من خلال ميثاق حماية الديمقراطية الذي اتفقت بموجبه على الإضراب حال سماع المارشات العسكرية من ذاك التاريخ والى الثلاثين من يونيو القادم تكون قد مضت على خطوة الإسقاط ثمانية آلاف وأربعمائة وثمانية أيام.
الوجه الذي تريد به المعارضة إسقاط النظام هو حملة تبرع يقوم بها الآخرون نيابة عنها فهي وعلى حسب الدكتور الترابي تضغط حتى يقبل النظام التخلي عن الحكم وبزعم غيره فإنها تريد أن تحاور النظام ليس على شكل جديد من الحكم بل على سبل خروجه من الحكم.
والوسيلة الأخرى ما ينادي بها السيد فاروق أبو عيسي من دعوة الشعب للتحرك في الشوارع والميادين.
ووسيلة أخرى ابتدعها صاحب الجبهة العريضة لإسقاط النظام على محمود حسنين وهي الطلب إلى القوات المسلحة والقوات الأخرى أن تهب وتتحرك لإسقاط النظام.
هذا طلب إلى الغير وحظ المعارضة منه الوساطة والسمسرة.
نالت المعارضة حوالي ثمانية ألاف وأربعين فرصة بمضاعفة المائة يوم وهي تسعي لإسقاط النظام.
هذه فترة كافية ليعود بعض عقل لمن يحملون هذه الدعوة .. المنطق يقول أن تقوم بمراجعة لهذا النهج وهذه تفترض اثنين، إما أن النظام أقوى من أن يسقط وهذا يعني أنه قوى والقوة في الحكم لا تبقي من ليس له سند من الجماهير وحسب المعارضة أن التنكيل والقوة غير مجدية في البقاء.
الأمر الثاني أن عدم تحرك الشارع والقوات المسلحة يعني الرفض لمقترح المعارضة أو رفض لها .
سيكون مفيداً أن تقوم في البلاد معارضة قوية لا نرجو لها أن تسقط النظام ولا نعول عليها خيراً ولكن إذا وجدت معارضة قوية لربما أفضت بالحكم إلى تحقيق بعض من الإصلاحات التي يرون أنه تقاعس فيها.
الذين ينشطون في حملات إسقاط النظام ليسوا ممن تتوافر لهم الأهلية في قيادة الشعب السوداني إلى التغيير والوصول إلى حكم يوافق ما يدعون.
الترابي من صناع النظام الحالي ولو كان في حكمه خير لفعله من قبل، هو يعارض لفوات الفرصة وضياع السلطة من بين يديه.
والسيد فاروق أبو عيسي هو ربيب الشمولية منذ الحزب الشيوعي و إلى مايو الخالدة أبداً.
وممثل حزب البعث الناشط في هذا يكفيه حكماً عليه ديمقراطية البعث أين حلت في الأرض.
هذه نماذج فاقدة الصلاحية ولعلها تنظر إلى ديباجتها وتصمت أو أن تحسب الأيام والليالي التي ملأت فيها الأرض ضجيجاً دون طحن.
ثمانية آلاف وأربعمائة وثمانية أيام من الضجيج ولا يزال العرض مستمراً.

الأحد، 9 يونيو 2013

سيد الأدلة!

بدا الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت أميناً مع (نفسه) حين اضطر للإعتراف ضمنياً بتقديم بلاده الدعم للمتمردين السودانيين. الاعتراف الضمني -الأخطر فى تاريخ علاقات البلدين- تمثل في (إعتذار حار) قدمه الرئيس كير للحكومة السودانية عما اعتبره خطأ إرتكبته حكومته فى حق الحكومة السودانية.
والاعتراف الجنوبي بهذا الصدد لم يكن مستغرباً لسببين هامين جدا: أولهما وأهمها أن مظروف الأدلة المادية الدامغة التى قدمها السودان عبر وفد تم ابتعاثه خصيصاً الى جوبا مكون من وزير الخارجية كرتي ورئيس جهاز الأمن، الفريق عطا لم يكن من بد سوى الاعتراف بما تضمنه، ومن ثم فسواء اعترف بذلك الرئيس الجنوبي وحكومته أم لا، فإن الدليل على أية حال ناطق ويحدث بجلاء عن نفسه.
ثانيهما أن الرئيس كير –الذي فوجئ حقاً بالأدلة الدامغة هذه يعتقد الكثير من المراقبين أنه (يعاني) من (فقدان جزئي) للسيطرة على مساعديه وعلى وجه الخصوص قادة جيشه وجنرالاته الكبار..
لدى الرئيس كير (أزمة خاصة) فى هذا الصدد جعلت منه (تائها) إذا صح التعبير وسط توجهات متقاطعة من الدائرة الحاكمة المحيطة به، وعلى الرغم من خبرته الاستخبارية السابقة وخلفيته المهنية فى هذا الصدد إلا أن الرجل لم يعد يسيطر على كل شيء، ولهذا، وفى هذه النقطة بالذات اضطرت الحكومة السودانية لمواجهته بالأدلة.
وهي مواجهة من المؤكد أن الخرطوم كانت تفترض حيالها أحد أمرين، إما أن الرجل يعلم، وفى هذه الحالة لا بد له من التسليم بما تم تقديمه له نائياً بنفسه عن المكابرة غير المجدية؛ أو أنه لا يعلم فيعمل منذ الآن ومن ثم يتخذ الترتيبات اللازمة (لسد الثغرة التى تتدفق منها المياه)!
ويمكن القول أنه فى الحالتين لم يكن أمام الخرطوم سوى (إحراج) الرئيس الجنوبي مهما بدا ذلك الإحراج ماساً بسيادته، فالأمن القومي للدول لا مجال فيه للمساومات وأحاديث المجاملات الدبلوماسية المغلفة بالأوراق اللامعة الملساء.
وكما أشرنا فإن الاعتراف –فى حد ذاته– لم يكن مستغرباً، ولكن الأكثر مدعاة للاستغراب أن العديد من الجهات الإقليمية والدولية التى اخترقت آذانها اعتذارات الرئيس الجنوبي تعاملت مع الأمر وكأنها لم تسمع شيئاً!
ولتقريب المغزى والمعنى دعونا نتصور -مجرد تصور- لو أن هذا الإعتذار كان قد جاء من القصر الرئاسي فى الخرطوم بدلاً عن نظيره فى جوبا! من المؤكد أن السيدة رايس كانت ستكون الآن فى الحدود السودانية الجنوبية برفقة زملائها من مجلس الأمن لتعقد (جلسة متحركة)، كما فعلت من قبل قبيل انفصال الجنوب وإذن لرأيتَ الكلمات تخرج من لسانها كما الطلقات فى أفلام الغرب الأمريكي البالية وهي تطالب بقوات أممية تحرس جوبا من غوائل الهجمات السودانية.
الآن انهزمت الثورية رغم كل الدعم الجنوبي وغير الجنوبي الذى قدم لها واستنفرت الثورية –لسوء حظها– السودان كله كدولة، بل حتى أولئك الذين كانوا يشكلون للثورية (نصف طابور) بالداخل من ساسة ومنظري أيدلوجيا ومجتمع مدني أصبحوا ضدها وضد إنتهاكاتها المخجلة بحق المدنيين والأبرياء، ثم انهزمت جوبا هزيمة دبلوماسية بالغة البؤس والتعاسة حين اضطرت للاعتراف (أملاً في تخفيف الحكم) من الخرطوم.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن مجلس الأمن (مصاب بالصمم) و (ثقل فى اللسان) و (غشاوة كما المياه السوداء فى العيون)! لم يقل إن اعتراف جوبا الضمني هذا إدانة فى حقها تستوجب (عقوبات دولية) ولم يقل إن معنى هذا الاعتراف اشتراك جوبا (فعلياً) و (على مسرح الجريمة) فى الاعتداء على المدنيين والانتهاكات الفاضحة التى ارتكبت فى أبو كرشولا.
أقصى ما فعلته رايس وهي فى هذا المناخ المشبع بالإحباط أنها (وبوجه خالٍ من الماكياج السياسي والبودرة الأمريكية البيضاء) طلبت من الخرطوم الكف عن قصف المدنيين فى جنوب كردفان والنيل الأزرق.
رايس ربما كانت تعتقد أن المنطقتين (فى منطقة واحدة) وأن أبو كرشولا إما أن تكون فى النيل الأزرق أو فى جنوب كردفان ولهذا عليها أن تشمل فى حديثها المنطقتين!

السبت، 8 يونيو 2013

حتى لا تعطش مصر.. والسودان!!

جميع الاحتمالات مفتوحة على المفاجآت، وخاصة فيما يتعلق بالمياه، ويأتي موضوع بناء سد النهضة في أثيوبيا، ليضيف موقفاً خطيراً على مصر والسودان في مستقبل السنين، وطالما لم تصبح الاتفاقات الموقعة عام ١٩٢٩م في تقاسم المياه سارية المفعول فإن اتخاذ قرار بناء السد من قبل أثيوبيا ودون النظر للدول المتضررة، قد يفتح حرباً عسكرية تصبح نتائجها غير متوقعة، لأن المسألة تتعدى قضايا الحقوق، إلى الاحتكار، وبالتالي فمصر والسودان عليهما توحيد موقفيهما ونسيان الخلافات الجزئية على اتجاهات سياسية، أو قضايا حدود، على اعتبار أن خطوة أثيوبيا جرس إنذار للبلدين..

المشكل في البلدين العربيين أن الانقسامات الداخلية، واتساع دائرة الخلافات بين الفصائل الحزبية والسياسية، كانا السبب في استغلال ضعفهما واتخاذ قرار بناء السد، وعلى هذا الأساس، فالموقف لا يحتمل خلافاتٍ أو إلقاء اللوم على طرف داخلي أو خارجي، وإسرائيل لا تخفي نواياها في لعب الدور الخلفي والداعم لخلق أزمات بالجوانب الحيوية في حياة البلدين العربيين، فهما بلدا مصب، ومن يتحكم في المنبع فإنه يستطيع فرض شروطه، وقائمة مطالبه، ومصر، وإن ابتعدت عن دورها المؤثر عربياً وأفريقياً، فهي ليست في الموقف الذي تقف فيه عاجزة عما يهدد أمن وجودها، وطالما هناك مواثيق واتفاقات ملزمة، فالموقف الدولي لن يعطيك أكثر من إصدار حكم لك أو ضدك، لكنه لا يتدخل في الحسم في هذه الأمور..

الحدث كبير، وبما أنه لا يزال في مراحل التنفيذ الأولى، فالدبلوماسية من موقع القوة منطق أساسي، وهذا يحتاج إلى شعور مصري - سوداني أن الخطر أكبر من المعالجة بالمسكنات، فطرح الموقف بشكل جاد، ربما يغيّر مسار التصلب الأثيوبي، لأن القوة، السياسية والعسكرية تملكهما مصر والسودان، وفي حال وجود تنسيق مبكر، فقد يعطي هذا دافعاً لأن تجد أثيوبيا نفسها في موقف أكثر خطراً، خاصة وأن تحريك الصومال وأريتريا، والقبائل في داخل أثيوبيا التي تعيش اضطهاداً دينياً، وتفرقة عنصرية أسلحة يمكن استخدامها، أسوة بما تريد أن تفعله إسرائيل مع جنوب السودان أو مع أثيوبيا..

الثورة المصرية غيّرت شكل النظام، ولكنها تحتاج إلى رؤية موضوعية في خلق مصالحات ليس من أجل حزب أو فئة، أو طائفة، بل من أجل مصر الكيان التاريخي الذي يجب أن لا يرتهن إلى واقع المهزوم أمام خصومه، ولعل تحريك مسألة مياه النيل هو الأخطر بين كل التحديات لأن مصر بدون هذا النهر ستكون مجرد صحراء، وشعب يتعرض للفناء، وهذا ليس تهويلاً، لكنه الواقع الذي تريد إسرائيل وغيرها حصارها بما هو أكثر خطورة من أي تحد آخر..

في الدول المتقدمة وغيرها، هناك اتفاقات بتقاسم المياه بين المصدر، والمصب، لكننا في عالمٍ ثالث لا يتقيد بالقوانين، فالاحتمالات مفتوحة على أكثر من أزمة خطيرة..

الخميس، 6 يونيو 2013

موسيفيني.. دخول المباراة بعد صافرة النهاية!

حين لم يجد الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني ما كان يريده عبر دعمه (اللا محدود) للقوى المسلحة المختلفة الناشطة ضد السودان، وحين أدرك الرجل -فى لحظة فارقة- أن الثورية مهزومة لا محالة، وأن علاقات جوبا والخرطوم ماضية عاجلاً أم آجلاً -طوعاً أو جبراً- نحو التحسن والتعاون ومن ثم سيصبح هو عملياً خارج الملعب، ضرب أخماساً بأسداس وطلب بتسلُّم ملف دارفور!
والواقع إن كان لأيّ مراقب أن يستنتج شيئاً -دون عناء- من وراء هذا الطلب اليوغندي الغريب هو أن الرجل يود دخول ملعب المباراة بعد أن أطلق الحكم صافرة النهاية وبدأ الملعب ينفضّ والجمهور يخرج من الأبواب الضخمة.
وهذه فى الواقع هي طبيعة الأنظمة السياسية التى تعتمد على التغذية الاستخبارية، يأتيها القرار من الخارج معلباً فى ورق سلوفان ولا تستطيع ابتداء ً أن تقرر دخول مطبخها الخاص لتعد الوجبة التى تروق لها.
نظام الرئيس موسيفيني فى يوغندا لم يكتف بأن يصبح (ميدان رحب) للرماية بذخيرة المخابرات (الحية) ضد دول المنطقة، ولكنه تحول فى الأعوام العشر الماضية الى نظام (تابع) لجماعات ضغط أمريكية وبريطانية وجدت فيه مؤهلات جيدة لخوض أي مغامرة.
لقد تركت كل من واشنطن وبريطانيا والعديد من الدول الأوربية جماعات الضغط التى تسبب لها إزعاجاً (تتصرف) بنفسها على طريقة (أخدم نفسك بنفسك) الشهيرة المعروفة في البوفيه المفتوح، ففي نظام الرئيس اليوغندي حدائق غناء، و (زوايا مظلمة) لعقد الصفقات و (تبادل الأنخاب) وتمنطق السلاح على الخصور المغطاة بالسترات السميكة!
والأمر الأكثر مدعاة للدهشة أن الرئيس موسيفيني لم تكن له في أي يوم من الأيام علاقة عادية (مجرد علاقة عادية) دعك من علاقة جيدة مع الحكومة السودانية حتى يمكنها أن تعهد إليه بملف من الملفات. كما أنه –وفى هذه اللحظات– ظل وما يزال يشرف على تدريب وعقد اجتماعات الحركات المسلحة فى كمبالا ويوفر لها كل شيء من النبيذ المستورد الفاخر الى الذخائر وربطات العنق الصقيلة اللامعة!
نظام الرئيس موسيفيني لم يدع أي أمر يمكن أن يؤذي السودان لم يفعله فكيف يمكن أن يصبح وسيطاً محايداً ونزيهاً؟ والسؤال الأكثر أهمية هنا هو إذا كان موسيفيني لديه الرغبة فى حل جزء من أزمات السودان وحريص على استقرار السودان، لماذا لم يقدم بادرته هذه قبل أن يستضيف هذه الحركات المسلحة وقبل أن يشوِّنها لتقود هجماتها ضد السودان؟
من المؤكد أن الرجل (بعقليته الحربية الإفريقية الكلاسيكية) كان يراهن على إمكانية إسقاط نظام الخرطوم عبر هذه الحركات المسلحة وحين بدأ يدرك أن الأمر بالنسبة للسودان مختلف تماماً يود أن يلحق بالمباراة فى دقائقها الأخيرة عسى ولعل أن تتم (ضربات ترجيحية) ترفع عنه حرج الدعم الذى لم يجدي نفعاً رغم كثرته واتساعه، وفى الوقت نفسه يحول بينه وبين (المحاسبة السياسية) فى علاقاته مع السودان، فملف الرجل فى الخرطوم فاض وإمتلأ بأوراق وسوابق جنائية تملأ البحر.
وعلى كلٍ فلربما كانت بداية للشعور بالوعي وبأهمية السودان واستحالة العبث به، مهما بدت له المهمة سهلة ومجرد نزهة!

الثلاثاء، 4 يونيو 2013

الحدود مع الجنوب.. التامين بالتعايش

حملت تصريحات الفريق أول ركن عصمت عبد الرحمن رئيس هيئة الأركان المشتركة في أبو كرشولا الجمعة الماضية عن خطة لمنع دعم دولة جنوب السودان للحركات المسلحة شرعت في تطبيقها  بمناطق التمرد فعلاً وتأتي الخطة التي تحدثت عنها القوات المسلحة رداً علي ما رشح من تجدد دعم جوبا للمتمردين مؤخراً رغم أن السودان وقع مع دولة الجنوب بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا في مارس الماضي علي مصفوفة تنفيذ الترتيبات الأمنية التي تنص علي الانسحاب الفوري لقوات البلدين مسافة 10 كيلو مترات جنوب وشمال خط الصفر المتفق عليه لإنشاء المنطقة العازلة منزوعة السلاح بين البلدين.
وكان الرئيس عمر البشير حذر من أن السودان سيغلق خط أنابيب النفط الذي يتم من خلاله تصدير بترول الجنوب إذا واصلت جوبا دعم المتمردين وكان واضحا إن هذا التصريح الرئاسي صادر عن معلومات موثقة باستمرار الأخيرة في مسلسل الدعم الذي عززه ما تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً بشأن وصول سليمان جاموس القيادي بحركة العدل والمساواة الي جوبا وان حكومة الجنوب مدت الجبهة الثورية وحركة العدل والمساواة بقطع غيار لسيارات الدفع الرباعي وقال الرئيس حين خاطب احتفال تحرير أبو كرشولا من أيدي متمردي الجبهة الثورية بوزارة الدفاع انه يحذر دولة الجنوب من أن السودان سيغلق خط أنابيب النفط للأبد إذا قدمت جوبا أي دعم للمتمردين في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
وكان قد جري اتفاق بين الطرفين علي تولي قائد البعثة الأممية بأبيي (يونسفا) مراجعة ومراقبة عملية انسحاب الجيشين بع (33) يوماً من بداية صدور الأوامر الأولية المحددة في العاشر من مارس الماضي ولكن المراقب يتساءل: في وجود حدود بين السودان ودولة الجنوب، تتجاوز أكثر من ألف وسبعمائة كلم،. هل يمكن إيقاف الإمداد عن المتمردين؟
وفي رأي خبراء عسكريين اتصلت بهم ( الرأي العام) للإجابة عن السؤال يقول الخبير الاستراتيجي اللواء د. محمد عباس الأمين انه إذا قامت مصالح مشتركة مع كل دول الجوار السوداني كافة فإن ذلك كفيل ببناء حدود آمنة وان العمل العسكري يأتي بإجراءات عددية منها اختيار المداخل المتوقعة التي تؤثر علي امن وسلامة البلاد وقال: هنالك مناطق تتم بالإجراءات العادية عبر حركة القبائل والتبادل التجاري فالتامين يشمل أماكن مختارة إذ لا يمكن للجيش أن يغطي كل مناطق الحدود.. ويضيف اللواء عباس بأن المسائل الفعالة في تامين الحدود هي الأساس في علاقات الجوار ويضرب مثلاً بما تم علي الحدود السودانية التشادية كانت هنالك مشاكل وهنالك ست عشرة قبيلة لكن تم تامين هذه الحدود بالعلاقات والمصالح وبالتنمية المشتركة.
وأشار العباس الي إمكانية تسوير المناطق عسكرياً بما وفرته التقنية الحديثة وعبر الأقمار الاصطناعية بوضع خطة مرنة عبر دفاعات متحركة وهذه مرونة وتامين.
من جانبه يقول الخبير الأمني العميد امن (م) حسين بيومي انه يمكن سد مناطق المنخفضات الأمنية أو أي ثغور يتوقع أن ينفذ منها المتمردون ويشير الي انه يجب أن يكون هنالك موقف مع دولة جنوب السودان لمنعها من تقديم الإمداد والمأوي للمتمردين وينوه الي أن حدودا ممتدة مثل حدودنا مع دولة الجنوب يصعب مراقبتها رغم وجود القوات الأممية المتفق عليها ويري ان تقوية العمل الإستخباري مطلب ضروري جداً.
أما العميد (م) جمال عبد الرحمن فقال إن اية اتفاقات دولية أو غيرها لا يمكن ان توقف تسلل قوات في حدود كحدود السودان ودولة الجنوب لذلك فهو يري مع عمل القوات المسلحة ضرورة إقامة علاقات ثقافية واجتماعية واقتصادية مع شعبي البلدين فمثلما إن سور البيت مهما علا لن يحميك من اللصوص فانك لن حمي حدودك مع دولة إلا بالتنمية والمصالح الاقتصادية،وأشار الي حسن العلاقات بين السودان ومصر علي حدود مشتركة طوال عقود من الزمان والي الآن  ومع تأمينه علي دور القوات المسلحة فإنه يدعو الي تفعيل علاقات التعايش بين القبائل الموجودة بين البلدين وهي لها قاعدة راسخة سبقت انفصال دولة الجنوب وهذه القبائل يجب توعيتها للخروج من أوهام الماضي بأنهم درجة تانية أو خلافه ويضيف: بالتنمية الاقتصادية والثقافية سنؤمن حدودنا وبالتالي يكون العمل العسكري ضامناً لهذه العلاقات.

الاثنين، 3 يونيو 2013

قوى الاجماع ورحلة صيد سياسية فاشلة الى جوبا!

منذ يوم الأربعاء الثامن من مايو المنصرم وقيادات تحالف المعارضة المعروفة بقوى الإجماع الوطني تشعر بآلام في الصدر وتشويش فى الذهن وضيق فى النفس السياسي؛ فالأحداث الجارية في أبو كرشولا غربيّ السودان وضعتهم فى مأزق سياسي كبير.
ترك كل خصوم الحكومة خصوماتهم وأصبحوا جبهة واحدة ضد العدوان. كما أن هزيمة الثورية -كما كان يدور في ذهن القادة الحائرين- مسألة وقت فقط، ومرحلة ما بعد الهزيمة باتت تضغط على صدر القوى المعارضة بقوة، وشرايينها السياسية تزداد ضيقاً والعرق يتصبّب على الجباه التائهة!
كيف إذن يمكن أن يكون المخرج؟ فهم لا يعرفون ماذا كان قرار حلفائهم فى الثورية باحتلال المنطقة استراتيجياً يإمكانهم المحافظة عليه ومن ثم المساومة به أم أنه مجرد تكتيك.
كما لا يعرفون كيف ستكون طريقة تعاملهم مع الحكومة وهم لا يستطيعون الوقوف معها مخافة خسران الثورية؛ كما أنهم لا يستطيعون الوقوف مع الثورية ليس مخافة الحكومة فقط، وإنما مخافة دولة بكاملها شعباً وأرضاً وتاريخاً، وفى مثل هذه المنعطفات التاريخية عادة فإن التاريخ يسجل ولا يرحم ولا يمحو أو يصفح!
أخيراً وجدها القيادي بالتحالف، المحامي الأقل حظاً فى اللباقة والحصافة السياسية والذي أُوكِلت له مهمة قيادة المكتب الإعلامي للتحالف. "فلنبدأ من مقتل سلطان دينكا نقوك، كوال دينق" ، هكذا قال المحامي كمال بضحكة نصفها به قدر من المكر ونصفها الآخر بدا كآهة متحسرة على مشهد سياسي لا تتوفر فيه أدنى جدوى سياسية للمعارضة فالخسائر فى كل مكان، والسلطة الحاكمة اكتسبت مؤيدين جدد، والتعبئة والاستنفار اتخذ مساراً عفوياً تلقائياً ولا مجال لهزيمة جيش يقف وراءه كل شعبه.
القيادي كمال عمر قال لرفاقه فى ذلك اليوم إن المخرج الحالي الوحيد هو محاولة السفر الى جوبا. زيارة ظاهرها العزاء فى السلطان كوال، ولكن باطنها أمور أخرى مكانها القاعات المغلقة، والأحاديث الهامسة.
وافترق الجميع يومها وقد ركنوا جميعاً للمقترح، فهو لا يكلف شيئاً ويتيح لهم الابتعاد عن نيران التعبئة الساخنة واللاهبة، ويقلل أو يرطب سخونة الحرج السياسي في أجواء الخرطوم الصيفية الساخنة التى بلغت درجة الحرارة السياسية فيها درجة مماثلة لدرجة حرارة الأجواء، فهي ببساطة درجة غليان الماء. وتعرف قوى الإجماع –بحكم التجارب والخبرات– أن هذه الدرجة لا يجيء معها أيّ محاولة (تبريد) ولو نزلت المئات تحت الصفر.
فى صبيحة الخميس التاسع من مايو تحرك وفد قوى الإجماع نحو مقر سفارة دولة جنوب السودان في الخرطوم ولم يستغرقهم الأمر إجراءات مطولة فقد كان عنوان زيارة سفارة: تقديم العزاء لسفير جوبا وتسجيله على الدفاتر التى عادة ما تعد لمثل هذه المناسبات كأمر بروتوكولي مراسيمي مألوف.
وعلى أبواب سفارة دولة جنوب السودان ترجل القادة الذين كان يتقدمهم كمال عمر والذين طلبت منهم الجهات الإدارية المسئولة فى السفارة ألا يتجاوز عددهم الخمس.
وفى مكتب السفير، وفي قاعة باردة جلس السفير الجنوبي (ميانق دينق) الى القادة الخمس وهو يصغي الى كلمات العزاء من قادة الوفد والتي ابتدرها المحامي كمال عمر معدداً مآثر الفقيد سلطان دينق، وربما علت الدهشة وجوه بعض رفاقه حين أشار كمال الى ان الفقيد كان مسلم الديانة.
السفير (ميانق) لم تبد على ملامحه وتقاطيع وجهه الصامت أية تعبيرات، فتلك طبيعة عمله وطريقة تعامله، تدرب عليها بما يكفي وأصبح ماهراً فيها. وتناوب بقية الأعضاء كلٌ بحسب ما أُتيح له ترديد كلمات العزاء التى سُجلت فى خاتمة اللقاء على مضابط السفارة ليُرسَل جزء منها ضمن التقارير الدورية التى عادة ما ترسلها البعثات الدبلوماسية الى عواصمها.
ولا أحد يدري بالطبع كيف مضت كل الدقائق في ذلك اللقاء وما هي تفاصيل ما قِيل مباشرة، أو ما قيل ضمناً، ولكن رئيس الوفد كمال عمر فيما يبدو وجدها سانحة –طالما أن السفير الجنوبي تقبل منهم هذه التعازي المعبرة بهذا القدر من الترحيب وتفضل عليهم بوقت ثمين، لكي يطلب توسيع نطاق العزاء ليتجاوز الوفد الحدود ويقدم العزاء للقيادة الجنوبية مباشرة فى جوبا.
أغلب الظن أن هذا الطلب راود القيادي كمال عمر لمّا أحسَّ (بدفء اللقاء) و (حرارة الكلمات) والمناخ المعتدل داخل مكتب السفير الذى أنساه حرارة الجو السياسي في أبو كرشولا والخرطوم والهزيمة الداوية الوشيكة للجبهة الثورية هناك. السفير الجنوبي سرعان ما أبدى موافقته على الطلب، فما الذي يضير من  ذهاب وفد سياسي سوداني الى جوبا لتقديم واجب عزاء؟ الأمر لا يتطلب أكثر من تأشيرة دخول، وتنبيه عاجل للقيادة في جوبا أن (بضاعة سياسية) بسعر مناسب ومواصفات معقولة فى الطريق إليكم!
لم يستغرق الأمر بعد اللقاء المطول فى السفارة ضحى الأربعاء التاسع من مايو سوى أربعة أيام، كانت تأشيرات الدخول قد وُضعت على جوازات الوفد، وأحيطت جوبا علماً بتاريخ الوصول وحزمَ الوفد حقائبه ليصل صبيحة الاثنين الثالث عشر من مايو الى جوبا.
ولأن من الطبيعي في مثل هذه الأجواء ان تستثمر جوبا فى الزيارة فإن وفوداً إعلامية وسياسية عديدة تم رصها بعناية فى المطار، فقد نجح أحد الماكرين فى قيادة الحركة الشعبية الجنوبية في إيهام العديدين بأن وفد سودانياً معارضاً سيصل الى جوبا للتباحث حول أمور بالغة الأهمية وأن الوفد بالنسبة لجوبا – كما قال ذلكم الماكر – هو عدوّ عدوّنا! وأنَّ عدوّ عدوّنا كما تعلمون هو صديقنا بالضرورة!
عقب وصول الوفد وسط ذلك الزخم الإعلامي والذي لم يستمر طويلاً بعد أن أدرك مراسلي الفضائيات ووكالات الأنباء المتشوقين طويلاً لما سيفعله الوفد، وأنَّ الوفد يقوده كمال عمر وهو بالنسبة إليهم غنيّ عن التعريف؛ انفضَّ السامر في المطار!
أمين عام الحركة الشعبية باقان أموم أحسّ بالبرود الذى انتاب مراسلي وكالات الأنباء والصحفيين، لهذا سارع بفتح صالة كبار الزوار فى مطار جوبا ليلج إليها الوفد . ولكي لا يضع أموم نفسه في موضع يقلل من مكانته السياسية، فقد دفع بالسكرتير الإعلامي الخاص به، عاطف كير ليكون (وفداً مرافقاً) للوفد السوداني السياسي الكبير.
ولم يقصِّر عاطف كير -بقدر من  الدهاء- في وضع الوفد القادم في امتحان مباشر بعقد مؤتمر صحفي في صالة كبار الزوار سمح فيه لإثنين فقط من الوفد وهما (كمال عمر) و (عبد الجليل الباشا) بالتحدث الى الصحفيين عن أهداف الزيارة!
الوفد وجد نفسه يدور فى حلقة صغيرة فارغة مدارها كله تقديم واجب العزاء وفي الوقت نفسه ظل الصحفيين الذين صبروا على الموقف يتساءلون بإلحاح عما إذا كان كل هذا العناء وصالة كبار الزوار والحشد الإعلامي والسياسي لتقديم واجب العزاء! بل إن بعضهم تساءل عما إذا كان واجب العزاء يستلزم (مؤتمراً صحفياً)؟ هذا خلاف تساؤلات بديهية ضجت بها القاعة ولكنها لم تجد الإجابة حول مستوى القادة القادمين الذين جُعِلَ منهم (برتوكولياً) في مستوى السكرتير الإعلامي لأمين عام الحركة الشعبية!
كمال عمر وصلت الى مسامعه بعض هذه الهمهمات وكاد أن يتمعّر وجهه غضباً لولا أن عاطف كير عاجله بإبتسامه استوائية بدت أكثر عزاءً من كلمات العزاء التى قالها الوفد!
عقب انفضاض المؤتمر الصحفي الذى لم يخرج منه المراسلون بشيء يمكن إرساله على عجل لوكالاتهم، أخذت الوفد سيارة حكومية من طراز متواضع الى فندق (نمولي) ليكون نزلاً بروتوكولياً للوفد. وبصرف النظر عن (درجة الفندق السياحية) فإنه على أية حال وجد فيه الوفد راحة قصيرة لم تمتد لأكثر من نصف ساعة ليفاجأ الوفد بدخول أمين عام الحركة الشعبية أموم إليهم!
مفاجأة الوفد بدخول أموم رسم لوحتها صحفي أفريقي كان يرابط فى الفندق بحثاً عن أحد زملائه الذين جاءوا خصيصاً من دولة افريقية مجاورة لتغطية الزيارة بدعوة من وزارة الإعلام الجنوبية. ودلل الصحفي بأن حضور أموم بدا لأعضاء الوفد مفاجئاً -ودون سابق إخطار- لأنّ أحد أعضاء الوفد كان قد راح في سبات عميق، واضطر للإستيقاظ فجأة على وقع الجلبة التى عمت المكان بقدوم أموم.
وبطبيعة الحال تصعب معرفة كل تفاصيل ذلك اللقاء غير المعلن والمفاجئ ولكن من المؤكد ان أموم استطاع أن يعزف بمهارة -كعادته- على وتر حكومة المؤتمر الوطني وكونها هي أس الأزمة بين البلدين وأنها تسعى لإذلال دولة الجنوب.
أموم أيضاً –كما كشف بنفسه لاحقاً لأحد الصحفيين– أكد للوفد أنهم لا يريدون حرباً مع الخرطوم لأن ذلك يضر بقضية التنمية فى بلادهم، وأنهم لا يدعمون الثورية . ولعل أكثر ما يستلفت الانتباه في ذلك اللقاء الذي شهده فندق نمولي، أن المتحدث الوحيد فيه كان أموم، والمستمع الوحيد أعضاء الوفد ولسوء حظ الوفد فإن أموم كشف عن كل ذلك -بعد نصف ساعة فقط من اللقاء- لأحد المحررين في تلفزيون جنوب السودان متباهياً بأنه (أعطى درساً) لساسة شماليين!
ولعل الأمر الأكثر غرابة فى كل ملابسات هذه الزيارة أنها اتصفت بقدر من ما يمكن ان نطلق عليه (غلظة سياسية) قصدت الحركة الشعبية مسبقاً ان تتعامل بها مع الوفد، فهي تعرف أن أمثال كمال عمر كانوا أعدائهم اللدودين منذ سنوات قلائل، ووجدتها سانحة لإذلالهم غاية الإذلال. فبعد لقائهم أموم و (استماعهم) لمحاضرته السياسية الموجزة كان عليهم التقاء أحد أبناء أبيي وأحد أقرباء السلطان القتيل وهو دينق ألور.
ومن أسوأ ما اخترق آذان أعضاء الوفد أن ألور هو الآخر أعاد إسماعهم ذات محاضرة أموم بحذافيرها وأضاف إليها -
بأسلوبه الخاص- إتهامات صريحة للخرطوم بالتورط فى مقتل السلطان كوال ووجدها سانحة ليقدم لهم (رواية تفصيلية مطولة) قال إنها هي حقيقة الوقائع التى جرت في ملابسات مقتل السلطان.
ومضى ألور فى فذلكة تاريخية سياسية أثارت ضجر الوفد المنهك الذى جاء فقط لتقديم العزاء، فإذا به يحتاج هو نفسه الى عزاء! كما بدا وكأنّ قيادة الحركة الشعبية تمارس (نوعاً من التعذيب) للوفد الذى اختار المجيء طائعاً بغرض التسويق السياسي فى جوبا مع علمه أن جوبا لم تعرف سوق جيّد يعج بالبضائع السياسية ذات المواصفات المطلوبة.
ألور هو الآخر سارع بعد انتهاء اللقاء لإعداد تقرير ضافي (بما اسمعه للوفد السوداني المعارض) وقدمه على عجل للرئيس كير لأنه يعلم أن الوفد سيلتقي الرئيس كير في وقت من الأوقات ضمن برنامج الزيارة .
تقرير ألور الذى تناقلته بعض الأيدي طباعةً وإعداداً وتنسيقاً لم يحظ بالسرية الكافية، ولهذا أصبح بعد لُحيظات مثار تندُّر القادة الجنوبيين وإلتقاط بعض المراسلين المرابطين قرب المقار الرسمية في جوبا؛ ففي جوبا فإن آخر ما يمكنك البحث عنه عنه هو السرية!
ومن المؤكد أن ضجيج الكلمات والعبارات التى اخترقت آذان الوفد جعلته يتمنّى لو أنه اكتفى بالتعزية التى قدمها لسفير دولة الجنوب فى الخرطوم، إذ أنه وبعد لقاء كلٌ من أموم وألور كان فى انتظارهم أحد مسئولي أبيي من الجانب الجنوبي وهو إدوارد لينو، إذ على الرغم من أن لينو مريض ويستشفِي في جناح خاص بفندق (جوبا فليدج) إلا أن الوفد كان ملزَماً بالتقائه هو الآخر والاستماع إليه، وإزداد الأمر سواء في لقاء لينو حين أصر الأخير على إعطائهم (سرداً تاريخياً) للأزمة السودانية الجنوبية منذ ما قبل نيفاشا 2005 ليضطر الوفد للاستماع الى التاريخ (من وجهة نظر جنوبية) محضة كانت بالتأكيد تستبطن إهانة الوفد ضمنياً، إذ أن السرد كله كان حول (الشماليين) والظلم والخداع والسلسلة المعروفة من الحكاوي الجنوبية المعهودة.
لينو هو الآخر أمرَ أحد مرافقيه بسرعة إرسال (تقرير وافي) عما قاله للقادة القادمين الى الرئيس كير قبل ان يصل إليه أعضاء الوفد (حتى يكون في الصورة). وبالفعل تم ذلك ليتحرك الوفد وقد بلغ به التعب والإنهاك مبلغاً خرافياً من كثرة الاستماع الى العبارات المهينة المغلفة بسولفان سياسي ماكر، ولهذا وحين وطأت أقدام الوفد القصر الرئاسي الذي يجلس فيه الرئيس الجنوبي كان يتنفس الصعداء، إذ على الأقل هذه (آخر أحزان الزيارة) وبعدها يستطيع الوفد ان يخلد للراحة ويبتعد عن هذا الضجيج السياسي المزعج.
الرئيس كير –لسوء حظ الوفد– أعاد على مسامع الوفد كل ما سمعوه من القادة السابقين من واقع التقارير التى وصلت إليه ولكنه – لسبب ما – أتاح للوفد التحدث ليجدها الوفد فرصة (نادرة) للحديث عن كل مثالب المؤتمر الوطني وتورطه في جريمة اغتيال كوال وتورطه في العديد من الجرائم الأخرى.
كان واضحاً أن الوفد قد تمت (تعبئته) سياسياً من قبل أموم وادوارد لينو حتى إذا ما إلتقى الرئيس كير في نهاية هذه السلسة من اللقاءات يقدم إدانة سياسية واضحة لما يسميها حكومة  المؤتمر الوطني.
لقد بلغ سوء التقدير السياسي لدى قيادة الوفد أنها لم تدرك هذه الحقيقة إلا بين يديّ الرئيس، حيث سجلت مضابط الرئاسة إدانات موثقة من قبل قوى سودانية معارضة (من بينها قيادي إسلامي) إدانة لبلادهم أمام رئيس دولة أجنبية!
ولهذا فقد ترك لهم الرئيس كير -بخلفيته الاستخبارية- الحبل على الغارب ليسُبّوا حكومة بلادهم ويدينوا دولتهم في حادثة مقتل كوال دينق متحاشين تماماً التطرق الى أي أمر آخر قد يغضب جوبا، وبلغ سوء تقدير الوفد الزائر ذروته حين قفل راجعاً الى الخرطوم وقد بدأت تفاصيل الزيارة تتطاير هنا وهناك بحسابات مدروسة بعناية من قبل القيادة الجنوبية، فقد كانت جوبا تبحث عن (ما يدين الخرطوم) قبل إلتقاء الرئيسين، البشير وكير في أديس أبابا على هامش قمة الاتحاد الأفريقي الثالثة والعشرين؛ كما كانت جوبا تواقة لما يغطي لها عن دعمها للثورية والورطة التى وقعت فيها الثورية في أبو كرشولا، الأمر الذي جعل رحلة الصيد السياسية التى ظن قادة هذه القوى المعارضة أنهم قاموا بها لبراري جوبا لم تكن سوى رحلة صيد كانوا للأسف الشديد هم الطريدة الوحيدة فيها!!